بقلم د.نادي شلقامي
لم يعد الريف المصري معزولاً عن ثورة الاتصالات؛ فمن وجه بحري الخصب إلى صعيد مصر العريق، اقتحم الإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعي (السوشيال ميديا) كل منزل وقرية. هذا التحول الرقمي يمثل “سلاحاً ذا حدين” في حياة المزارعين، رجالاً ونساءً. فمن جهة، أصبح الهاتف الذكي نافذة الفلاح على العالم، يفتح أمامه آفاقاً جديدة للمعلومة الزراعية الحديثة والتسويق المباشر لمنتجاته، مما يعزز قدرته الاقتصادية. ومن جهة أخرى، يفرض تحديات جمة تتعلق بانتشار المعلومات المضللة، ومخاطر الإدمان الرقمي التي قد تؤثر على جودة العمل الزراعي، وتغير في نسيج العلاقات الاجتماعية التقليدية. يستعرض هذا المقال التأثيرات الإيجابية والسلبية لهذه الأدوات الرقمية على صغار وكبار المزارعين، رجالا ونساء، ويسلط الضوء على ضرورات التحصين والوقاية في مواجهة هذا الطوفان المعرفي.
أولاً: التأثير الإيجابي للإنترنت والسوشيال ميديا على المزارعين..
1. تحسين الممارسات الزراعية وزيادة المعرفة:
أ- المعلومات الفنية: الوصول السريع إلى أحدث التقنيات الزراعية، طرق مكافحة الآفات والأمراض، مواعيد الزراعة والحصاد المثلى، ونصائح الخبراء عبر مقاطع الفيديو والمقالات المتخصصة (اليوتيوب، الصفحات المتخصصة).
ب- التعليم والتدريب: المشاركة في دورات تدريبية وندوات إلكترونية عن بعد في مجالات التسميد، الري الحديث، وجودة المحاصيل.
2. التسويق وبيع المحاصيل:
أ- الوصول إلى الأسواق: استخدام منصات التواصل (فيسبوك، مجموعات واتساب) لبيع المحاصيل مباشرة للمستهلكين أو التجار في المدن، مما يقلل من دور الوسطاء (السماسرة) ويزيد من هامش الربح للمزارع.
ب- تحديد الأسعار: متابعة أسعار المحاصيل في الأسواق المختلفة والأخبار الاقتصادية، مما يمكنهم من اتخاذ قرارات تسويقية أفضل وعدم التعرض للاستغلال.
ج- الترويج للمنتجات: الترويج للمنتجات الزراعية العضوية أو المميزة (الفاكهة، الخضروات، الأعشاب) والوصول لشريحة أوسع من المشترين المهتمين بالجودة.
3. التواصل والوعي الاجتماعي:
أ- بناء شبكات دعم: إنشاء مجموعات ومنتديات إلكترونية خاصة بالمزارعين لتبادل الخبرات وحل المشكلات المشتركة المتعلقة بالزراعة والري والقوانين.
ب-التوعية بالقضايا: نشر الوعي حول قضاياهم ومشاكلهم (مثل نقص المياه، أسعار الأسمدة، دعم الحكومة) والوصول إلى الجهات المعنية أو الرأي العام بشكل أسرع.
ج- الحصول على الخدمات الحكومية: إنجاز بعض المعاملات الحكومية والحصول على خدمات الدعم الزراعي بشكل إلكتروني.
ثانياً: التأثير السلبي للإنترنت والسوشيال ميديا على المزارعين
1. التشتت وانخفاض الإنتاجية الزراعية:
أ- إضاعة الوقت: قضاء أوقات طويلة في تصفح المحتوى غير المفيد أو الترفيهي على حساب العمل الميداني والأنشطة الزراعية الأساسية، مما يؤدي إلى تراجع الإنتاج.
ب- الإدمان الرقمي: خاصة بين صغار المزارعين أو أبنائهم، مما يؤدي إلى الإهمال في متابعة المحاصيل وإدارة المزرعة.
2. انتشار المعلومات المضللة (الإشاعات الزراعية):
أ- معلومات خاطئة: تداول نصائح زراعية غير علمية أو مضللة عبر المجموعات العامة قد يؤدي إلى الإضرار بالمحاصيل أو استخدام خاطئ للمبيدات والأسمدة.
ب-أخبار كاذبة: تداول شائعات حول أسعار المحاصيل أو قرارات حكومية قد يؤدي إلى اتخاذ قرارات خاطئة في البيع والشراء أو التخزين.
3. الآثار الاجتماعية والنفسية:
أ- العزلة الاجتماعية: انشغال الأفراد بالهواتف الذكية قد يقلل من التفاعل الحقيقي المباشر، ويؤثر على متانة الروابط الأسرية والمجتمعية التي تتميز بها الحياة الريفية.
ب- التأثير على الصحة: الإفراط في استخدام الأجهزة قد يؤدي إلى مشاكل صحية مثل إجهاد العينين واضطرابات النوم.
ج- الابتزاز والاحتيال: تعرض بعض المزارعين، خاصة كبار السن الأقل دراية، لعمليات احتيال إلكتروني أو ابتزاز مالي (وهمي) يتعلق ببيع وشراء المنتجات الزراعية.
ثالثاً: طرق الوقاية بالتفصيل الدقيق
الوقاية تتطلب جهداً متكاملاً يشارك فيه الأفراد أنفسهم، والمؤسسات التعليمية والزراعية.
1. الوقاية من الإدمان وإضاعة الوقت (للمزارعين أنفسهم):
أ- تحديد الوقت: تخصيص وقت محدد وثابت في اليوم لاستخدام الإنترنت والسوشيال ميديا (مثل ساعة واحدة بعد الغداء)، وتجنب استخدامه أثناء العمل في الحقل أو خلال الوجبات العائلية.
ب- تفعيل الإشعارات الضرورية: إيقاف جميع الإشعارات غير الضرورية لتقليل التشتت، والتركيز فقط على إشعارات مجموعات العمل والزراعة المهمة.
ج- استبدال الأنشطة: الانخراط في أنشطة بديلة تعزز الروابط الأسرية والمجتمعية في الريف (مثل الجلسات العائلية المسائية، الزيارات المتبادلة، الأنشطة الرياضية).
د- هدف واضح: استخدام الإنترنت بنية واضحة ومحددة مسبقاً (مثلاً: سأبحث عن سعر الطماطم اليوم أو عن علاج لآفة معينة)، والابتعاد عن التصفح العشوائي.
2. الوقاية من المحتوى المضلل والاحتيال (التوعية والتدريب):
أ- التدريب على التحقق: عقد دورات تدريبية (حتى في المراكز الشبابية أو الجمعيات الزراعية) لتعليم المزارعين، خاصة الكبار منهم، كيفية التحقق من مصداقية المعلومة ومصدرها (هل هي من موقع حكومي، مؤسسة بحثية موثوقة، أو مجرد منشور شخصي).
ب- الاعتماد على المصادر الرسمية: توجيه المزارعين للاعتماد على تطبيقات ومواقع وزارة الزراعة والإرشاد الزراعي للحصول على المعلومات الفنية والأسعار الرسمية.
ج التحذير من الاحتيال: توضيح الأساليب الشائعة للاحتيال الإلكتروني (مثل الروابط المشبوهة، طلب كلمات المرور، أو العروض الزراعية غير المنطقية) والتحذير من إعطاء أي بيانات شخصية أو بنكية عبر الإنترنت.
3. الدور المؤسسي والمجتمعي:
أ- برامج الإرشاد الإلكتروني: إنشاء برامج إرشاد زراعي رقمية على شكل فيديوهات قصيرة ومبسطة باللغة العامية تركز على احتياجات الريف المصري.
ب-رقابة الأسرة: يجب على الآباء والأمهات مراقبة استخدام أبنائهم للإنترنت، والتأكد من عدم تأثيره السلبي على دراستهم أو مشاركتهم في الأنشطة الزراعية والاجتماعية.
ج- تعزيز الثقافة الرقمية الإيجابية: تشجيع استخدام السوشيال ميديا في الترويج للمنتجات المحلية والحرف اليدوية، والاحتفال بالنجاحات الزراعية في القرية بدلاً من التركيز على المحتوى التافه.
رابعا… تأثير الإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعي علي بنات الفلاحين في الريف المصري (وجه بحري والصعيد) هو تأثير مزدوج ومعقد، يختلف باختلاف العمر والمستوى التعليمي والوضع الاجتماعي. ينعكس هذا التأثير على الجوانب التعليمية، الاقتصادية، والاجتماعية والنفسية.
أولاً: التأثير الإيجابي على بنات الفلاحين..
1. التمكين الاقتصادي وريادة الأعمال (Entrepreneurship)
أ- التسويق للمنتجات الريفية: تستغل الفتيات المنصات (مثل فيسبوك وإنستجرام) لتسويق وبيع منتجات يدوية أو زراعية محلية (مثل الأطعمة الريفية، ومنتجات الألبان، والمشغولات اليدوية والتطريز). هذا يفتح لهن مصادر دخل مستقلة ويحسن من وضعهن الاقتصادي.
ب- فرص العمل عن بعد: يمكنهن الوصول إلى فرص عمل إلكترونية أو التدريب على مهارات رقمية (كالجرافيك، والتسويق الإلكتروني) لا تتطلب مغادرة القرية، مما يعزز استقلاليتهن المادية.
2. التعليم وتنمية المهارات
أ- سد الفجوة التعليمية: يوفر الإنترنت مصادر تعليمية ضخمة (دورات مجانية، دروس تقوية، محتوى ثقافي) قد لا تكون متاحة بنفس الجودة في المدارس الريفية.
ب- تطوير المهارات: تعلم مهارات حياتية جديدة أو لغات أجنبية أو مهارات فنية وحرفية عبر مقاطع الفيديو التعليمية، مما يفتح آفاقاً جديدة للمستقبل.
3. الوعي الاجتماعي والصحي
أ- نشر الوعي بالقضايا: التعرف على حقوقهن القانونية، وقضايا الصحة الإنجابية، والخدمات الحكومية المتاحة لهن، ومناقشة قضايا التمكين والمرأة الريفية.
ب- التواصل وبناء الهوية: تكوين صداقات وشبكات دعم افتراضية مع فتيات أخريات يشاركنهن الاهتمامات والتحديات، مما يعزز الشعور بالانتماء والدعم المعنوي.
ثانياً: التأثير السلبي على بنات الفلاحين ..
1. التأثير على الهوية والقيم الاجتماعية
أ-صراع القيم: التعرض لمحتوى يعكس أنماط حياة وقيم مختلفة بشكل جذري عن المجتمع الريفي المحافظ قد يخلق صراعاً داخلياً وتوتراً مع العائلة والأهل.
ب- المظاهر والتقليد: الرغبة في تقليد أنماط الحياة الاستهلاكية والمظهرية المنتشرة على السوشيال ميديا، مما قد يؤدي إلى ضغوط مالية ونفسية وعدم الرضا عن الحياة الواقعية البسيطة.
2. المخاطر الأمنية والاجتماعية
أ- الابتزاز والتنمر الإلكتروني: الفتيات، خاصة المراهقات، أكثر عرضة للابتزاز الإلكتروني أو التنمر أو الاستغلال بسبب نشر معلومات شخصية أو صور خاصة.
ب-انتهاك الخصوصية: مشاركة تفاصيل الحياة اليومية (حسب ترندات السوشيال ميديا) يؤدي إلى انتهاك الخصوصية، مما قد يعرض الفتاة وأسرتها لحكم اجتماعي أو مشاكل في بيئة القرية التي تعتمد على التماسك والتقاليد.
ج- التأثير على فرص الزواج: في بعض المجتمعات الريفية، قد يؤدي النشاط المفرط أو غير المنضبط على السوشيال ميديا إلى الإضرار بسمعة الفتاة وفرص زواجها.
3. التشتت والأداء التعليمي والمنزلي
أ- إدمان الإنترنت: قضاء وقت طويل في التصفح على حساب الدراسة أو الواجبات المنزلية الأساسية أو المشاركة في الأنشطة الزراعية العائلية.
ب- الصحة النفسية: الشعور بالقلق والاكتئاب نتيجة المقارنات الاجتماعية المستمرة بين حياتهن وحياة “المؤثرين” المظهريين على الإنترنت.
ثالثاً: طرق الوقاية ..
تعتمد الوقاية على ثلاثة محاور رئيسية: الأسرة، والمدرسة والمجتمع، والتوعية الفردية.
1. دور الأسرة والبيئة المحيطة (الرقابة الواعية)
أ- الرقابة الأبوية الإيجابية: بدلاً من المنع المطلق، يجب على الأهل الجلوس مع بناتهم ومتابعة المحتوى الذي يشاهدنه ومناقشتهن حول الإيجابيات والسلبيات.
ب- تحديد الوقت والقواعد: وضع قواعد واضحة لاستخدام الإنترنت (مثلاً: عدم استخدام الهاتف في غرف النوم أو بعد وقت معين)، مع الحرص على أن يلتزم الأهل بها أيضاً ليكونوا قدوة.
ج- التحصين القيمي: تعزيز الثقة بالنفس والقناعة بأسلوب الحياة والقيم الريفية الإيجابية، وتعليمهن كيفية التمييز بين الحياة الحقيقية والحياة الافتراضية المفلترة.
2. دور المؤسسات التعليمية والمجتمعية (التثقيف)
أ- برامج التوعية المدرسية: تضمين حصص دراسية أو ورش عمل في المدارس الريفية حول الأمان الرقمي (Digital Security) وكيفية حماية البيانات الشخصية.
ب- تفعيل المراكز الشبابية: إنشاء دورات تدريبية في مراكز الشباب والجمعيات الزراعية تعلم الفتيات:
1- مهارات الاستخدام المنتج: كيفية استخدام الإنترنت للتسويق والتعليم.
2- مهارات التحقق: كيفية التمييز بين الأخبار الحقيقية والإشاعات، وتجنب الروابط المشبوهة.
3. الوقاية الفردية (الأمان الشخصي)
أ- إعدادات الخصوصية: تعليم الفتيات ضبط إعدادات الخصوصية على حساباتهن (جعل الحسابات خاصة، تقييد الوصول للمعلومات الشخصية).
ب-تجنب الغرباء: عدم قبول طلبات الصداقة أو الدخول في محادثات خاصة مع أشخاص مجهولين، وعدم مشاركة الموقع الجغرافي.
ج-التفكير قبل النشر: التأكيد على أن المحتوى الذي يُنشر على الإنترنت يصبح عاماً ودائماً، وضرورة التفكير في العواقب الاجتماعية أو الأمنية قبل نشر أي معلومة أو صورة.
إن تأثير الإنترنت والسوشيال ميديا على الفلاحين في مصر هو حقيقة لا يمكن تجاهلها. لقد وفرت هذه الأدوات فرصاً غير مسبوقة للتمكين الاقتصادي للمرأة الريفية عبر تسويق المنتجات اليدوية، وفتحت آفاقاً معرفية وتقنية للرجال لزيادة إنتاجيتهم. لكن هذا التقدم يأتي مصحوباً بضرورة ملحة لـ**”الوعي الرقمي”. على المجتمع الريفي، بمؤسساته وأسره، أن يعمل بجد لـتحويل الشق السلبي إلى إيجابي**؛ من خلال تعزيز برامج الإرشاد الزراعي الإلكتروني الموثوقة، وتثقيف الأجيال حول مخاطر الإدمان والاحتيال. إن التحدي يكمن في تحقيق التوازن بين الاستفادة القصوى من أدوات العصر الحديث، والحفاظ على جوهر الحياة الريفية من إنتاج فعّال وروابط اجتماعية متينة.
