بقلم أحمد رشدي
في صفحات التاريخ التي امتلأت بالفتوحات والتحولات الكبرى، يبرز اسم جنكيز خان بوصفه الرجل الذي أعاد رسم خرائط العالم بقوة فرسانه ونظامه العسكري الفريد. غير أن أعجب ما تركه خلفه ليس إمبراطوريته المترامية الأطراف، بل ذلك السر الذي ظل يتحدّى الزمن: أين دُفن جنكيز خان؟
وُلد جنكيز خان باسم تيموجين عام 1162م في سهول منغوليا، في مجتمع قبلي لا يعرف إلا الصراع على المراعى والزعامة.
عاش طفولته في قسوة بعد مقتل والده وتخلّي القبيلة عن أسرته، وهو ما صقل شخصيته وخلق فيه نزعة القيادة المبكرة.
ومع تقدّم عمره، تمكن بذكاء سياسي نادر من توحيد القبائل المتناحرة تحت راية واحدة، ليُعلن عام 1206م قائدًا أعلى للمغول بلقب جنكيز خان أي “الحاكم الأعظم”.
امتدت فتوحاته شرقًا وغربًا بلا توقف،
فأسقط ممالك شمال الصين، ودمّر دولة خوارزم شاه بعد صراع مدوٍ، وتوغلت جيوشه حتى حدود أوروبا الشرقية.
وقد اعتمد في حروبه على تنظيم عسكري صارم، وسرعة حركة فرسانه، والاستخبارات المتقدمة، مما جعل جيشه الأعظم في عصره.
أما داخليًا، فأرسى نظام حكم متماسكًا عرف باسم الياسا، وهو قانون شامل ينظم شؤون الدولة والجيش والعقوبات. منح الشعوب حرية العبادة، وحمى طرق التجارة، وأنشأ شبكة بريدية واسعة ساعدت على التواصل السريع داخل إمبراطوريته. وهكذا تحولت منغوليا من قبائل متناحرة إلى قوة عالمية لا تُجارى.
وفي عام 1227م، وبينما كان يخوض حملته على مملكة شيا الغربية، مات جنكيز خان تاركًا قادته أمام وصية لم يقلّ غموضها عن غموض شخصيته. فقد أمر بأن يُدفن في قبر لا يعرفه أحد، وأن يختفي من الأرض كما لو لم يوجد عليها قط.
ومن هنا بدأت واحدة من أكثر طقوس الدفن سرّية وقسوة في التاريخ. نقل الحرس جثمانه عبر البراري في موكب صامت، وقيل إنهم قتلوا كل من صادفوه أثناء الطريق ليمّحوا آخر شاهد على وجهته. وفي موقع مجهول لا يزال لغزًا، حفر آلاف العمال القبر ثم قُتلوا جميعًا فور انتهاء عملهم، ليتولى جنود آخرون التخلص من الحرس أنفسهم، حتى تُمحى كل خيوط السر. وبعد الدفن، حُرثت الأرض وزُرعت، ثم أُطلقت آلاف الخيول فوقها لتختفي أي علامة تدل على أن يدًا بشرية لمست هذه الرقعة.
ومنذ ذلك الوقت، ظل قبر جنكيز خان أعظم لغز مفقود في التاريخ المغولي. وعلى الرغم من القرون الطويلة من البحث والتنقيب، لم يتمكن أحد من العثور على موضع دفنه. تشير بعض الروايات إلى منطقة بورخان خالدون المقدسة، بينما يذهب آخرون إلى أنه دُفن في أرض لا يمكن تمييزها من كثرة ما جرى إخفاؤها بعناية. لكن الحقيقة المؤكدة الوحيدة أن القبر لا يزال حتى اليوم هاجسًا لعلماء الآثار، وجزءًا حيًا من أسطورة الرجل الذي غيّر العالم.
وهكذا، كما ظهر جنكيز خان في التاريخ على صهوة الخيل،
اختفى في الأرض بلا أثر،
ليبقى اسمه حاضرًا بقوة، وقبره غائبًا بصمت،
في واحدة من أكثر القصص غموضًا وجاذبية في سجل البشر.
