بقلم : جمال حشاد
قبل عقدين فقط، كانت “العولمة” تبدو وكأنها قدر الإنسانية الحتمي؛ شبكة اقتصادية وثقافية وتقنية توحّد العالم في منظومة واحدة. غير أن العقدين الأخيرين شهدا تصدّعًا متزايدًا في هذا المشروع، مع عودة النزعات القومية، وتصاعد الحروب التجارية، وظهور أقطاب جديدة تنافس الغرب التقليدي.
وهكذا، عاد السؤال إلى الواجهة:
هل دخلنا فعلًا مرحلة ما بعد العولمة؟ وهل يُمثّل النظام العالمي الجديد نهاية العصر الذي بشّر بعالم بلا حدود؟
أولًا: العولمة – من الحلم الكوني إلى الأزمة البنيوية
انبثقت العولمة في تسعينيات القرن العشرين عقب انهيار الاتحاد السوفييتي، حين بدت الولايات المتحدة القوة الوحيدة المهيمنة. ساد آنذاك وهم “نهاية التاريخ”، واعتُبر الاقتصاد الحر والديمقراطية الليبرالية النموذج النهائي للحكم والإنتاج.
لكنّ التجربة أثبتت أن العولمة لم تكن متكافئة:
ازداد الفقر في الجنوب العالمي رغم نمو الأسواق.
تحوّل الإنتاج إلى دول منخفضة التكلفة، ما دمّر الصناعات المحلية في الغرب.
سيطرت الشركات العابرة للقوميات على القرار الاقتصادي، بينما تراجعت سيادة الدول.
ومع الأزمات المالية المتكررة، وخصوصًا أزمة 2008، بدأ العالم يراجع مفهوم “السوق المفتوحة” ويبحث عن بدائل.
ثانيًا: التحوّل الجيوسياسي – عودة التعددية القطبية
النظام العالمي الذي يتشكل اليوم لا يقوم على هيمنة قطب واحد، بل على توازنات متشابكة بين قوى كبرى:
الولايات المتحدة لا تزال الأقوى عسكريًا، لكنها تواجه منافسة اقتصادية من الصين وتكنولوجية من آسيا.
روسيا استعادت حضورها السياسي والعسكري في مناطق الصراع.
الاتحاد الأوروبي يعيش مأزقًا بين التبعية للغرب الأمريكي والرغبة في الاستقلال الاستراتيجي.
دول الجنوب (من البريكس إلى الشرق الأوسط وأفريقيا) بدأت تبحث عن موقعها الجديد في الخارطة.
هذا التعدد في مراكز القوة يعني أن العولمة بصيغتها الأحادية القديمة قد فقدت زخمها، لتحل محلها “عولمات متوازية” أو “نظام عالمي متشظّي”.
ثالثًا: من الاقتصاد المفتوح إلى الاقتصاد المحمي
تُظهر سياسات السنوات الأخيرة – من الحرب التجارية الأمريكية-الصينية إلى أزمة سلاسل التوريد أثناء جائحة كوفيد-19 – أن الدول الكبرى عادت لتضع الأمن القومي فوق منطق السوق.
تقليل الاعتماد على الخارج أصبح هدفًا استراتيجيًا.
الصناعات التكنولوجية الحساسة تُعاد إلى الداخل.
حتى الغذاء والطاقة يُعاملان الآن كقضايا سيادية.
لقد تحوّلت العولمة من حلم بالترابط المطلق إلى قلق من التبعية المتبادلة.
رابعًا: التقنية والهوية – عولمة جديدة أم انغلاق ذكي؟
المفارقة أن التكنولوجيا التي صنعت العولمة، أصبحت اليوم أداةً لتفكيكها.
شبكات التواصل خلقت عوالم رقمية مغلقة داخل كل ثقافة.
الذكاء الاصطناعي والبيانات الضخمة تُستخدم لتعزيز السيطرة الوطنية بدل التواصل العالمي.
منصات مثل “تيك توك” و“إكس” تحولت إلى ساحات صراع بين القوى الكبرى.
وهكذا، باتت العولمة الرقمية تُنتج عزلة معرفية بدل الاندماج، في عالم يبدو موصولًا ظاهريًا لكنه منقسم فعليًا.
خامسًا: ما بعد العولمة – نحو نظام عالمي متعدد المسارات
النظام الجديد الذي يتشكل اليوم لا يُلغي العولمة تمامًا، بل يُعيد تشكيلها على أسس واقعية أكثر:
منطق الهيمنة الأمريكية يتحول إلى منطق التوازن والمصالح المتبادلة.
بديل “العولمة الغربية” قد يكون تعدّد النماذج: صيني، أوروبي، إسلامي، أفريقي.
بدلاً من “العالم الواحد”، نحن أمام عالم مترابط لكن غير موحّد.
إنها ليست نهاية العولمة، بل نهاية احتكارها من طرف واحد.
يبدو أن النظام العالمي الجديد لا يسير نحو الانغلاق التام، ولا نحو العولمة المطلقة، بل نحو توازن جديد بين السيادة الوطنية والتكامل الدولي.
العولمة لم تمت، لكنها فقدت براءتها الأولى؛ لم تعد وعدًا بالوحدة الكونية، بل صراعًا على من يضع قواعد اللعبة.
وفي هذا المخاض التاريخي، يتحدد مصير القرن الحادي والعشرين:
هل ننجح في بناء عولمة عادلة ومتعددة الأقطاب، أم نسقط في فوضى الانقسام والتنازع المستمر؟
