بقلم السيد عيد
هناك زمنٌ لا يُقاس بالساعة، ولا يُحفظ في الروزنامات، لكنه يسكن في زاوية صغيرة من الروح… زمنٌ اسمه الطفولة. تلك المرحلة التي كنا نظنها بابًا صغيرًا سنعبره لنكبر، فإذا بها الوطن الوحيد الذي نعود إليه كلما ضاقت بنا الدنيا.
كانت الطفولة لحظةً تُشبه ركضةً سريعة خلف فراشة، لا نريد الإمساك بها قدر ما نريد ملاحقتها. كانت الشوارع أكثر رحابة، والبيوت أكثر دفئًا، والقلوب أبسط من أن تعرف الخوف. العالم كله كان يتسع لصوت ضحكة، أو لعلبة ألوان نحاول بها تلوين السماء كما نحب، لا كما هي.
في الطفولة، لم تكن الأشياء تقاس بقيمتها المادية؛ كانت العلبة الفارغة كنزًا، والحبل لعبة، وقطعة الشوكولاتة عيدًا. كان بيننا وبين العالم اتفاق غير مكتوب: هو يمنحنا دهشته، ونحن نمنحه براءتنا. لم نكن نسأل كثيرًا، لأن الإجابات كانت تختبئ في العيون، لا في الكتب.
كبرنا قليلًا، فاكتشفنا أن الكرة التي كنا نركلها ليست مجرد لعبة، بل درسٌ في المشاركة. وأن الشجار الصغير مع صديق الحارة لم يكن سوى تمرينٍ على التسامح، لأننا كنا نعود للعب بعد دقائق، كأن شيئًا لم يكن. وأن سقوطنا من فوق شجرة الجوافة كان هو نفسه الدرس الأول في الشجاعة، لا في الألم.
والأمهات… يا لطقس الأمومة في زمن الطفولة! كانت الأم تضحك لضحكتنا قبل أن نفهم سببها، وتبكي لوجعنا قبل أن نشعر به. كانت يدها هي السماء التي لا تسقط، وصوتها هو الموسيقى التي تُعيد ترتيب الفوضى في قلوبنا الصغيرة.
ومع ذلك، فإن جمال الطفولة الحقيقي يكمن في أنها تمضي. تمضي لتترك في القلب فجوةً حلوة، لا تُملأ. تكبر أجسادنا ويبقى في دواخلنا طفلٌ ينادي: “هيا نلعب قليلاً”، طفلٌ لا يريد شيئًا سوى أن يركض دون سبب، يفرح دون مناسبة، ويصدق دون خوف.
الطفولة ليست مرحلةً تُنسى؛ بل ذاكرة تصرّ على أن تضيء، مهما تراكم فوقها الغبار. إنها ضوءٌ خافت في آخر الممر، يذكّرنا بأن العالم كان يومًا بسيطًا للغاية، وأننا كنّا قادرين على الفرح بأقل القليل… وأننا ما زلنا، لو شئنا، قادرين عليه.
فربما نحن لا نشتاق للطفولة بقدر ما نشتاق لأنفسنا كما كنّا فيها.
