بقلم: رانيا ضيف
أصبح عالم السياسة عصيًّا على التنبؤ بمآلاته، فلسنا اليوم مثل الماضي الذي كان يكشف لنا من السياسة قمة جبل الجليد iceberg، بينما نرى الآن هذه القمة مغطّاة بالمواءمات السياسية وتشابك المصالح وتحوّل السياسات والأحداث وفق ما يستجد على الساحة من تغير التحالفات ، أشبه بما تفرضه حركة أحجار الشطرنج على رقعة العالم.
لم تعد خيوط اللعبة كلها في يد قوة عظمى واحدة، بل تشابكت الخيوط وتوزعت بين قوى كبرى متناحرة.
إسرائيل التي عاشت طويلًا تخدع العالم عبر آلتها الإعلامية، تتقن دور الضحية وتذرف دموع التماسيح حتى يصدقها العالم ويتضامن معها ويدافع عنها، يسقط القناع عن وجهها القبيح أثناء محاولة بائسة للتمسك بصورة زائفة لم تعد تقنع أحدًا. لتنقلب الحقائق رأسًا على عقب.
هل كان من المتوقع أن يقف العالم اليوم متضامنًا للاعتراف بالدولة الفلسطينية في مجلس الأمن، بعد أن هزّت كلمات الحق الضمائر وأزالت بعضًا من الغشاوة عن عيونٍ طالما غُيِّبت عن الحقيقة؟
ومن كان يتصور أن إنجلترا، صاحبة وعد بلفور المشؤوم الذي منح الكيان الصهيوني شرعية مزيفة لاغتصاب الأرض وانتهاك الحقوق، تقف اليوم لتسجل اعترافها بدولة فلسطين، في مواجهة القوة الغاشمة ذاتها التي غرستها يومًا كالخلية السرطانية في جسد الأمة العربية؟
هل هذه الدول ذاتها التي طالما مررت جرائم الكيان المحتل بصلفٍ وعجرفة، مستخدمةً “الفيتو” في أكثر من مناسبة وواقعة، فإذا بها اليوم تضرب بكل سياساتها السابقة عرض الحائط لتصنع مشهدًا جديدًا في التاريخ السياسي حتى لو كان ذلك الموقف هو ورقة ضغط على أمريكا لتعدل من سياساتها الدولية!
ورغم أن موقف فرنسا وإنجلترا، ومعهما دول أخرى، قد يبدو في جانب منه ردًّا على سياسات ترامب الفجة والمتغطرسة، خصوصًا في ملف حرب أوكرانيا بعدما تخلت أمريكا عنهم وتركتهم في مواجهة الدب الروسي، إلا أن ذلك لا يقلل من أهمية هذه الخطوة المفصلية وغير المتوقعة.
ناهيك عن مشهد انسحاب الوفود أثناء كلمة نتنياهو في مشهد محرج يعبر عن مدى استياء كل تلك الدول من ممارساته اللاإنسانية
وجرائم الحرب التي تورط فيها بإبادة شعب أعزل
في مشاهد دامية أبكت القلوب في كل أنحاء العالم.
ليرد هو الآخر ويهدد ويتوعد في مشهد عبثي!
ثم تتوالى الأحداث متصاعدة فيفرض العالم على إسرائيل عزلة سياسية !
لكن الجميع يعلم أنه إذا ما التقت المصالح مرة أخرى سيتحول كل ذلك المشهد الذي أحدث جلبة واضحة في العالم إلى مجرد مشهد كارتوني كما يحدث الآن!
وإن كان هذا التحول كشف تغير موازين القوى الدولية وأن القبضة الأمريكية التي كانت تتحكم بمصير القرارات في الشرق الأوسط بدأت تضعف أمام صعود أقطاب جديدة. فالعالم اليوم يشهد إعادة توزيعٍ للأدوار والنفوذ، حيث باتت السياسات مرهونة بتوازنات دقيقة بين واشنطن وموسكو وبكين وبروكسل.
ومن بين كل تلك الأحداث تبرز القضية الفلسطينية كورقة اختبار لمدى التزام العالم بالقيم التي يرفع شعاراتها طوال الوقت من عدل وحرية وحقوق إنسان. وعلى الرغم من علمنا بأن اعتراف هذه الدول الأوروبية بدولة فلسطين لا يعني بالضرورة تغييرًا جذريًا في المواقف، لكنه يشكل ثغرة في جدار الصمت الطويل، وإشارة واضحة إلى أن إسرائيل لم تعد قادرة على خداع الجميع كما في الماضي.
قد لا يكون الحصاد قريبًا كما نتمناه، لكنه بالتأكيد يفتح أفقًا جديدة أمام القضية الفلسطينية، ويعيد وضعها على طاولة العالم كقضية مركزية لا يمكن تجاوزها، مهما حاول الاحتلال أن يطمس معالمها.
لذا فإن ما يجري على الساحة من أحداث ـ من الطائرات المسيّرة التي تخترق سماء الاحتلال وتكشف هشاشة منظومته الدفاعية، إلى أساطيل دولية تتحدّى حصاره، مرورًا بخطابات تاريخية على منابر الأمم المتحدة تدعو صراحةً إلى تشكيل جبهة عالمية لإنهاء الاحتلال ـ يؤكد أن إسرائيل تعيش لحظة فارقة في تاريخها القصير.
لقد بات الكيان الذي طالما تسيّد المشهد بدعم غربي مطلق محاصرًا سياسيًا وعسكريًا ودبلوماسيًا، لا من العرب وحدهم، بل من العالم كله رغم محاولات ترامب الأخيرة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه!
قد لا يسقط الكيان اليوم أو غدًا، لكن المؤكد أن أسطورته قد تهاوت بالفعل، وأن ساعة الحقيقة باتت أقرب مما يظن قادته، وكأن نبوءة لعنة العقد الثامن التي توجس منها خيفة قادة هذا الكيان تتحقق بالفعل!
