الجزء الثاني
بقلم: أحمد رشدى
الظلال تكتب من جديد
يقولون إن الكاتب حين يكتب،
يُفرغ ما في داخله من ظلال،
وأن الورق يُطهّر الروح.
لكن ماذا لو لم يَعُد في داخلي شيء سوى الظلال؟
ماذا لو أصبحتُ أنا نفسي مجرد سطر في قصة كتبها غيري؟
حين تكتب طويلًا عن الجنون… يبدأ الجنون بالكتابة عنك.
مرّت أيام بعد تلك الليلة التي انتهى فيها كل شيء… أو ظننتُ أنه انتهى.
عدتُ إلى الكتابة،
لكن الحروف صارت غريبة، الكلمات تنزلق من أصابعي كأنها لا تريد أن تُكتب.
كل جملة أكتبها تتغير وحدها… وكأن أحدًا يعبث بها بعدي.
حتى لاحظت ذلك التوقيع الصغير أسفل الصفحة:
“بقلم: الظل.”
من أين جاء هذا الاسم؟
من أنا إن لم أكن الكاتب؟
بدأت الأشياء تتغير حولي — صوري على الجدار اختفت،
واستبدلت بصورٍ لأبطالي.
في المرآة، لم أرَ وجهي، بل وجوههم هم.
حتى صوتي لم يعد صوتي، كأن “الظل” يكتب واقعي حرفًا حرفًا.
كنت في أمسّ الحاجة إلى حليف… فاستدعيتُها.
كتبتُ اسمها بحذرٍ في دفتري: أميرة.
وما إن انتهيتُ من النقطة الأخيرة،
حتى شعرتُ بعطرها يملأ الغرفة،
وظهرَت أمامي كما لو أنها لم تغب قط.
ابتسمت ابتسامة تحمل كل الغموض والحنان في آنٍ واحد،
وقالت بنبرتها التي تجمع بين السخرية والدفء:
ـ عدنا إذًا يا أحمد… لكن هذه المرة لن تكون أنت الكاتب الوحيد.
أجبتها ببرودٍ أُخفي وراءه الرعب:
ـ هل صرتِ أنتِ أيضًا في صف الظل؟
ضحكت وقالت:
ـ أنا لا أنتمي إلا لمن يكتبني جيدًا… والظل يعرف كيف يكتب.
ثم تقدّمت نحوي وهمست:
ـ كلنا خرجنا من رأسك، لكنك نسيتَ شيئًا يا أحمد… نحن لا نموت،
لأننا حروف، والحروف لا تموت.
انطفأت الأنوار فجأة،
وسُمعت أصوات أوراق تتمزق في الظلام، وأصوات خطوات تقترب.
خرج “ أدهم” البطل القديم،
و“مراد” الذي جعلته يخسر عقله في رواية الرعب السابقة،
و“سارة” التي قتلتها في فصلٍ ذات مرة.
كلهم يحدقون بي بنظرات مليئة بالعتاب والدم.
قال “الظل” بصوتٍ يخرج من كل مكان:
ـ الآن يا أحمد،
ستعرف شعور الشخصيات حين يُكتب مصيرها دون إذنها.
حاولت أن أقاوم،
أن أكتب نهاية مختلفة،
لكن القلم لم يتحرك.
كانت الورقة تكتب من تلقاء نفسها،
بخطٍ يشبه خطي تمامًا.
كتبتْ:
“يموت الكاتب في النهاية.”
صرخت بأعلى صوتي:
ـ لا… لن أكون مجرد ضحيةٍ في قصة!
أمسكت القلم بكل قوتي،
وبدأت أكتب بسرعةٍ محمومة:
“يعود الكاتب أحمد رشدي ويسيطر على كل شيء.”
اشتعل الضوء فجأة،
كأن العالم نفسه انقلب.
تجمدت الشخصيات مكانها،
وبدأت تختفي واحدة تلو الأخرى،
تتحول إلى رماد من الحبر.
الظلّ حاول المقاومة،
لكنني كتبت جملتي الأخيرة:
“يموت الظل حين يفقد الكاتب خوفه.”
نظر إليّ بنظرةٍ خالية من الكره،
أشبه بالاحترام، ثم تلاشى.
لم تبقَ إلا “أميرة”،
واقفة وسط العدم، تبتسم بخفة.
قالت وهي تقترب:
ـ كنتُ أعرف أنك ستفعلها…
ثم وضعت يدها على كتفي وقالت بهدوءٍ يشبه الوداع:
ـ فقط تذكر… نحن لا نعيش إلا حين تكتبنا. فلا تتوقف أبدًا.
ثم اختفت هي أيضًا.
وبقيتُ وحدي،
في غرفةٍ مملوءة بالورق والسكينة.
في الصباح، جلستُ أكتب من جديد.
كل الشخصيات عادت إلى صفحاتها،
كل قصة إلى مكانها.
لكن حين فتحتُ الدفتر الأخير،
وجدتُ سطرًا لم أكتبه أنا:
“وربما هذه المرة… سيكتبنا القارئ.”
ضحكت بخفوتٍ وأنا أرتشف قهوتي الساخنة، وقلت ساخرًا كعادتي:
ـ على الأقل،
لن أضطر لمجادلة أبطالي بعد الآن..
ثم نظرت إلى
الورق وقلت لنفسي
….أو هكذا أظن
