الأدب

مع مصطفى محمود

بقلم/ إبراهيم الديب

قرأت دكتور مصطفى محمود في بواكير حياتي معتقدا أنني لست في حاجة لقراءته مرة أخرى، لكون ما قرأته :سيقبع في مكان ما في الذاكرة لن يطاله النسيان، مواصلا شغفي بقراءة غيره من الكتاب والمفكرين وهم من اعتبر مؤلفاتهم دنيا فسيحة مترامية الأطراف جاعلاً من كتبهم ملاذا ألجأ إليها متجولا بداخل عقول مؤلفيها ؛اعيش بين سطورها وأفكارها وصفحاتها حياة رحيبة محلقة تملأ علي أقطار نفسي ؛لا تعادلها سعادة في عالم الواقع، لا أكف عن ممارسة هذا الطقس بالتجول في أزقة وطرق الفكر والأدب والفلسفة التي تمهد لمن يسلكها ويخلص لها طرقها الوعرة؛ تبوح له بالكثير من أسرارها بقدر إخلاصه لها ، ثم فترة قطيعة لم اخطط لها ولم اسعى إليها بيني وبين مصطفى محمود ، وعلى حين غرة عبثت بي الذاكرة عائدة للوراء لأجد: أثر مما قرأته لمصطفى محمود في الماضي احسه غير واضح، وأشعر به في نفسي احساس مبهم ولكنه يفتح أبوابا من التفكير، فمصطفى محمود ليس مجرد مفكراً أو أديباً ؛احتفظ بكتبه على ارفف مكتبتي ، بل من المفكرين الذين يحيون داخل نفسي، فليس مهما ما حفظته من كتبه، قدر ما تركه أثر القراءة يعيش في نفسي وعقلي .

لعل أهم صفات مصطفى محمود وما يميزه أن اغلب ما كتبه هو تعبيراً عما كابدة ومحصلة لما عاناه داخلياً حد الاحتراق النفسي فمن يقرأ ” رحلتي من الشك لليقين” وحوار مع صديقي الملحد” والوجود والعدم” والله” ورأيت الله” والسر الأعظم” وهي كتب لها علاقة بالفلسفة وعالم الغيب وهي عبارة عن عملية بحث شاقة خلال فترة شكه في كل شيء فجاءت هذه الكتب عبارة أن أسئلة مصطفى محمود لألغاز للوجود بحثاً لنفسه ولعقولنا عن أجوبة ، لم يخط حرفا واحدا منها؛ الا بعد هضمه لأغلب مذاهب الفكر والفلسفة والاديان السماوية، وأفكار وحدة الوجود الهندية وحكمة الشرق ؛ فجاءت هذه الكتب أقرب للسيرة الذاتية وأدب الاعتراف؛ عرض من خلالها معاناته للقراء وهو يتقلب على جمر الشك حيرته اثناء بحثه عن شط عقيدي ترسي عليها روحه وعقله ونفسه فهو في هذه الرحلة لا يملك خيار العودة وعدم مواصلتها ،بل مجبر على السير حتى نهاية الطريق ، ليجد النجاة أخيراً في نفسه بعد تصوفها الفكري والروحي ،وعقله بعد تسلحه بالعقيدة الصحيحة الذي اتخذ منها منطلق وتصور لمكانة الإنسان الذي خلقه الله خليفة في الأرض لتفرده بين الكائنات ،وكان لزاما على مصطفى محمود خوض رحلة البحث لعمل مقارنة بين ثقافته و عقيدة الدينية بما بفكر الآخر ، كما أنه نجح بالوقوف على حقيقة نفسه والحياة الدنيا التي يلبس ثوبها البشر وأنها مجرد :مرحلة يلبس بعدها البشر ثوب حياة البرزخ، ثم يرتدي بعد قيام الساعة ثوبها الاخير ،فليس هناك موت بل مراحل مختلفة بقوانين لا نعلم عنها شيئاً نخلع فيها ثوب ونرتدي ثوبا آخر، وكل لكون الانسان به نفخة الروح من رب العالمين وبذلك استحق الخلود ، ما خاض فيه مصطفى محمود بشفافية غيب لا يعلمه الا الله فاودع خلاصة تجربته بداخل مجموعة من الكتب كإجابات فكرية وفلسفية عميقة .

وهو نهج مصطفى محمود في مؤلفاته لا يكتب الا ما يعانيه ويديره بداخل نفسه لفترة طويلة في رحلة بحثه قرأ بوذا وحكمة وذرا دشت الايراني ،وآمن بتناسخ الأرواح الهندية وعبر عن هذه الفكرة أدبيا في رواية ‘العنكبوت” ورجل تحت الصفر ” كفنتازيا علمية، ولمصطفى محمود قدرة إلقاء الضوء على اعقد المذاهب و الفكرية والفلسفية وتبسيطها لعقل للقارئ بعد عكوفه عليه معملا عقله فيه لفترة طويلة ، كما عكف سارتر الفيلسوف الفرنسي على الفلسفة الوجودية وجعلها في متناول قارئ الأدب بعد كتابة “للغثيان” ومسرحية الذباب ” وغيرها فحمل الأدب على جناحه الفلسفة الوجودية وكان لسارتر فضل كبير في انتشارها بعد صياغته لها أدبيا، وهذا ما قام به مصطفى مع فكرة تناسخ الأرواح ومع نظريات العلم في رواية” رجل تحت الصفر” وكان له دور في تقريب وشرح الفلسفة الإسلامية في كتب القرآن محاولة لفهم عصري ” والقرآن كائن حي” من أسرار القرآن ” والإسلام ما هو” وغيرها عند تناوله الاسلام كفكرة وعقيدة وفلسفة وتأثيرها الإيجابي على الإنسان أثناء مقارنته للعقيدة الإسلامية مع مذاهب الفكر الغربي الرأسمالي أو الاشتراكي علاقة مصطفى والفلسفة لن نقصد بها انه صاحب مذهب فلسفي كما عند” هيجل “أو ايمانويل كانت” أو اسبينوزا” بل خطراته التي تومض في نفسه ويلمع بها عقله فيوثقها قلمه..

مصطفى محمود ليس مجرد كاتب ولكنه مفكر صاحب مشروع او بمعني اصح مثقف وضعي ابن سياقه التاريخي مهموم بما يموج به مجتمعه من قضايا فكرية وتحولات اجتماعية فعكسها قلمه الذي كان له نصيب وافر: أجناس الكتابة منها :الدراسة التي يستعين على شرحها: بالرواية فإن لم تتضح بصورة كافية ؛عقب عليها شرحا بالمقال، يشعر بعدها أن مازال هناك غموضاً يلفها ،فيتناول الفكرة في قالب مسرحي ، يرضى عنها بالكلية ليجد أنها تصلح أكثر لقصة قصيرة فيصغها أدبا رفيعاً ، يظل يدور حول الفكرة الواحدة عدة مرات لكثرة دورانها في نفسه و يقلبها على كل الوجوه، فقد يجد القارئ له الفكرة الواحدة فى وبداخل مسرحية، والأصل التي قامت عليه أحداث الرواية، وصيغت قصة قصيرة ، ومقال او ودراسة فلسفية، فكل كل مشروع مصطفى محمود وكل ما كتبه عبارة عن كتابا واحداً يحتوي على كل عناوين كتبه التي تقترب من المائة تناول فيها موضوعاً واحداً وهو مصطفى محمود وعلاقته بالوجود ووظيفته الحقيقية التي خلقه الله من اجلها ونظرته الصحيحة وللكون والحياة من خلال معيار العقيدة الصحيحة..

مصطفى محمود من الكتاب الذين يحرصون على مشاركة القارئ حيرته وقلقه، وشكه وتردده في عدم وضوح الرؤية ، وعجزه عن التوافق الداخلي، ليشعر القارئ و كأنه يشاركه الحيرة والتفكير ، ويعاني معه ، يخلق المؤلف بذلك علاقة حميمية بينه وبين القارئ كما يفعل انيس منصور رغبة في التواصل مع الناس عن طريق الكتابة، تعوضاً عن عزلة يعشيها المفكر، قام خلالها بدور المثقف العضوي على حد وصف جرامشي دور لم يطلب منه ولم يكلفه به أحد، حققت كتب مصطفى القصيرة العميقة ؛ انتشاراً ساحقا مستحقا من وجهة نظري لأنها عصارة وخلاصة عقائد سماوية ومذاهب فلسفة وفكر وأدب نسجها مصطفى محمود في ضفيرة واحدة بأسلوب سهل رشيق كخطرات فلسفية تقبض على كبد الحقيقة رقم قصر كتبه مقارنة مع غيره اغلب مادة هذه الكتب عبارة عن أجوبة على أسئلة الإنسان المعاصر .

لم يرغب مصطفى محمود ان يشعر القارئ ما كابده أثناء الكتابة من الحذف والإضافة لفترة طويلة ،وتقليب الأمر على عدة وجوه قبل أن يدفع كتبه للمطبعة وعلى قدر ما حققه من إنتشار فلم ينل اعتراف النخبة من المثقفين ولم تنل كتبه الدينية رضا علماء الدين ، فقد غضب عليه اليساريون ولم يرضى عليه اهل اليمين ،ولم يحظ أدبه فكره بما يستحقه من النقاد لعل سبب ذلك انه انتشر لعدد كبير وشريحة من القراء فعز على النقاد نجاحه دون أن يكونوا بوابته وسببا فيه فاهملوه ،الا من الأستاذ جلال العشري، في كتاب عنه بعنوان” مصطفى محمود شاهد على عصره” وهو سفر نفيس ومن من أعمق كتب جلال العشري ،أحيانا يكون انتشار سلاحا ذا حدين لاعتقاد البعض أنها الكتابة سطحية وأنها تقرأ للتسلية “وتزجية الفراغ” وتشجيع المبتدئين : وتحفيزهم على القراءة ، وبالفعل تتمتع كتابة مصطفى بأسلوب سلس سهل، ولكن السهولة كان سببها معاناة ومكابدة أفكاره مواضيعه وقضاياه الفكرية التي يناقشها عاكف عليه لفترات طويلة ً يديرها بداخل نفسه وعقله مرة تلو الاخرى، ثم يأخذ في الحذف والإضافة وإعادة الصياغة متهما نفسه دوماً بالتقصير حتى يصل للصيغة النهائية التي وصلت للقارئ تجمع بين عمق وسهولة الأسلوب ؛ غير مبرأ لنفسه من التقصير وعدم الإجادة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى