الأدب

غادة السمان وغسان كنفاني: حين تكتب الحروف بنبض القلب

بقلم/ سالي جابر

لم تكن العلاقة بين غادة السمان وغسان كنفاني مجرد قصة حب عابرة، بل كانت تلاقيًا نادرًا بين روحين من نار، كل منهما يحمل قلمه كأنه سلاح وجرحه كأنه رسالة.

غسان كنفاني، الأديب الفلسطيني الذي أضاء سماء الأدب المقاوم، لم يكن فقط روائيًا بارعًا في نقل هموم وطنه، بل كان إنسانًا شفافًا، يحمل بين كلماته حنينًا لا ينتهي، وغربةً لا تجد لها مستقرًا. أما غادة السمان، الكاتبة السورية الجريئة، فكانت رياحًا لا تُستأنس، صادقة حتى الألم، ثائرة حتى في الحب.

بدأت العلاقة بينهما برسائل… رسائل لم تُنشر في حياته، بل اختارت غادة أن تحتفظ بها لعقود، ثم نشرتها لاحقًا في كتابها “رسائل غسان كنفاني إلى غادة السمان”، لتكشف جانبًا إنسانيًا من شخصية الكاتب الذي عُرف دومًا بالصلابة. في تلك الرسائل، بدا غسان عاشقًا هشًّا، يائسًا، تائهًا بين حبٍ لا يُعلن، ووطنٍ لا يُنسى. كتب لها قائلًا: “إنني أحبكِ إلى حدّ الجنون، ولكنني أحب وطني أكثر”.

العلاقة بين غادة وغسان لم تكن مكتملة في العلن، فقد كان غسان متزوجًا، ملتزمًا بقضية شعبه، مشتتًا بين انتماءاته، بينما غادة كانت روحًا حرة ترفض القيود، حتى لو كانت قيود الحب. لم تكتب له ردودًا – على الأقل ما وصلنا – بل احتفظت بكبريائها، ومضت. لكنها لم تنكر يومًا أثره في حياتها، ولا عظمة ما كتبه لها.

وفي كتابها “رسائل الحنين إلى الياسمين”، عادت غادة لتتحدث عن غسان، لتقول إنها لا تزال تسمع صوته في طرقات الحنين، وتسترجع ملامحه في ليل الكتابة الطويل.

ربما لم يكن لهما أن يجتمعا، لكن الأدب خلّد حبًا لم يكتمل، ورسائل عبرت من قلبٍ محاصر إلى قلبٍ هارب.

تحليل الرسائل وتأثيرها الأدبي:

تُظهر الرسائل بين غادة السمان وغسان كنفاني جانبًا إنسانيًا وحساسًا في كلا الكاتبتين، حيث تكشف عن صراعاتهما الداخلية بين الواجب والإحساس. ففي حالة كنفاني، تُبرز الرسائل تنازلاته الشخصية من أجل قضية وطنه، ويُلاحظ كيف أن الهوية الوطنية والالتزام السياسي أثروا على قدرته على التعبير عن مشاعره بحرية مطلقة. أما بالنسبة لغادة، فتُعدُّ رسائلهما نافذة تعكس تأثير كنفاني على روحها الأدبية، إذ باتت تعتبر كتبه له مصدر إلهام يُغذي طموحاتها في الكتابة والتعبير عن مشاعرها بجرأة وصدق.

تتداخل في هذه الرسائل عناصر من الحزن والاشتياق والأمل، ما يمنحها طابعًا رومانسيًا وأيًّا في آن واحد. فهي ليست مجرد تبادل للكلمات، بل حوارٌ عاطفي ثقيل ينقل معاني الفقد والحنين، ويبرز كيف يمكن للأدب أن يكون لغةً للتواصل بين الأرواح، حتى وإن كان الزمان والمكان حائلا بينهما. توضح الرسائل أن الحب ليس فقط علاقة بين شخصين بل هو حالة إنسانية عميقة تتجلى في الإبداع الأدبي، حيث تتحول العواطف إلى كلمات تُخلّد في الذاكرة الثقافية.

أثر هذا التبادل العاطفي الكبير يظهر جليًا في أعمالهما اللاحقة؛ إذ استمد كلٌ منهما عناصر من تجربة الآخر، مما أثرى نصوصهما بتعابير صادقة تعكس واقعًا معقدًا من التناقضات بين الحب والواجب، بين الرغبة والالتزام. هذه الرسائل تصبح شهادة على أن الأدب في أوقات الأزمات والمشاكل السياسية يمكن أن يكون ملاذًا للتعبير عن الذات، وأن التعايش مع الهموم الشخصية والوطنية يمكن أن يثمر عن إبداع يحمل دلالات تتجاوز حدود الزمان والمكان.

بهذه الطريقة، يتجلى تأثير العلاقة الحميمة وغير المكتملة بين غادة السمان وغسان كنفاني في كونها جسرًا أدبيًا يجمع بين الانتماء العاطفي والسياسي، مما يجعل من نصوصهما إرثًا خالدًا يتحدى التحولات الاجتماعية والسياسية.

من رسائل غسان إلى غادة:

– “أحبكِ.. أحبكِ كأنكِ الوطن، كأنكِ القضية، كأنكِ الحياة حين تضيق وتختنق، ثم تتسع فجأة بحضورك

-“إنني أخاف أن أفقدكِ، أخاف أن أتكيف مع غيابكِ كما يتكيف المرء مع الألم.. حتى لا يعود يشعر به.”

– “إنني أحبكِ.. وهذا كل ما أعلمه، وكل ما أجهله في الوقت ذاته”

ومن رسائل غادة إلى غسان (رغم أنها لم تنشر رسائلها إليه، لكنها عقبت على رسائله لاحقًا بكتابات ذات دلالة):

– “كنتَ تحبني بطريقة تشبه الموت.. مطلقة، شاملة، لا رجوع فيها، ولكنك لم تقتلني بها، بل جعلتني أُبعث من رماد آخر.”

(غادة السمان، تعليقًا لاحقًا على رسائل غسان)

-“رسائلك كانت تُكتب بمداد القلب، لا الحبر.. وأحيانًا كنتُ أشعر أن الورق الذي يلامس يدك يحترق شوقًا قبل أن يصلني.”

من مقدمتها في كتاب “رسائل غسان كنفاني إلى غادة السمان”

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى