بقلم: السيد عيد
كلُّ إنسانٍ فينا له صديقُ طفولةٍ، ذاك الذي يعرفك قبل أن تعرف نفسك، ويرى فيك ما غاب عنك، والذي مهما تغيّر الزمن تبقى بينك وبينه “سُرّةُ وُدٍّ” لا تنقطع.
وصديقي ذاك… كان يُلقَّب بـ”المخ”، أما أنا فكان لقبي الرسمي “العضلات”.
هو العقلُ المدبّر، وأنا اليدُ المنفّذة.
هو يرسمُ الخطة، وأنا أقتحمُ المشهد.
وبين “المخ” و”العضلات”… كانت صداقتنا أجملَ معادلةٍ عرفها العمر.
منذ أول يومٍ في المدرسة، كنا شريكين في كل مغامرة.
هو يخطط لكيفية الهروب من الحصة كي نلعب كرة القدم، وأنا أتولى التنفيذ بكل فخر!
هو يتحدثُ فيقتنعُ المعلم، وأنا أتلقى العقاب مبتسمًا كأنني بطل قومي.
كنتُ أنا السند، وهو الدماغ.
أنا أتحمّس، وهو يُهدِّئ.
أنا أندفع، وهو يحسبها بالعقل.
وحين اجتمعنا… لم يكن بمقدور أحدٍ أن يقف في وجهنا.
حين يخطط “المخ”… وتدفع “العضلات” الثمن
كبرنا، وتفرّعت بنا الطرق، لكن الحكاية ظلّت كما كانت.
في الثانوية، كان هو يذاكر بعقله، وأنا بقلبي.
وفي الامتحان، كنت أتوتر وأرتبك، بينما يخرج هو مبتسمًا كأنه شاهد فيلمًا خفيفًا.
أنا أحب القهوةَ ، وهو لا أطيق مرارتها.
هو يقضي الساعات بين الكتب، وأنا أفضل رواية الحكايات على قراءتها.
هو هادئ كنسمة ربيعية، وأنا اندفاعي كريح الخماسين.
لكن على الرغم من كل هذا الاختلاف، لم نفترق يومًا…
كان يقول لي دائمًا:
“أنت العضلات التي تحمي الفكرة.”
فأجيبه مبتسمًا:
“وأنت المخ الذي يجعلني أتصرف بعقلٍ وأنا مندفع.”
تزوجتُ قبله، ومرّت سنواتٌ لم نعرف فيها عن بعضنا شيئًا.
كلٌّ منّا انشغل بحياته، وغرِق في تفاصيله، وبقيت الذكريات نائمةً في ركنٍ هادئٍ من القلب.
إلى أن جاء يومٌ عثر فيه صدفةً على رقم هاتفي،
ورسالة علي الواتس كانت كفيلةً بأن تُعيد الضحكة القديمة إلى الذاكرة.
ضحكنا كأن الزمن لم يمضِ، واسترجعنا أيام المدرسة والمقالب، وشعارنا الدائم:
“أنت المخ، وأنا العضلات.”
ومنذ ذلك اليوم عدنا لنتحدث من جديد، لا كلّ يومٍ ربما، لكن حين نتحدث، كأن الزمن يتوقف قليلًا ليقول لنا:
“الصداقة الحقيقية لا تموت… لكنها أحيانًا تأخذ إجازة طويلة.”
تعلّمتُ منه أن العقل من دون قلب لا يساوي شيئًا،
وتعلّم هو مني أن الشجاعة من دون حكمةٍ خطرٌ لا يُحتمل.
كبرنا، وتبدّل شكلنا، لكن بيننا حبلٌ خفيٌّ اسمه العِشرة لا ينقطع.
هو ما زال “المخ”… وأنا ما زلت “العضلات”،
لكن الحقيقة أننا معًا كما كنّا د
ائمًا قلبٌ واحد، يخاف على الآخر أكثر من أي زمنٍ مضى
