بين الشقاء الاعتيادي والسعادة الاعتيادية: كيف نوازن حياتنا؟

نور محمد
في كتاب التداوي بالفلسفة يُروى أن فرويد لم يكن يرى في التحليل النفسي وسيلة لجعل الإنسان سعيدًا، بل أداة تنقله من الشقاء المرضي إلى الشقاء الاعتيادي، تاركًا له مسؤولية تحويل هذا الشقاء الاعتيادي إلى سعادة اعتيادية. هذه الفكرة صادمة للوهلة الأولى، لكنها تحمل في طياتها واقعية عميقة حول فهمنا للسعادة والشقاء، وكيفية تعاطينا معهما.
حين يصبح الشقاء مرضًا
كل إنسان يحمل في حياته قدرًا من الشقاء، لكنه لا يصبح مرضًا إلا عندما نبالغ في الالتفات إليه، نضخم آلامه، ونجعل منه هوية نعرف أنفسنا بها. من الطبيعي أن نواجه الصعوبات، لكن الاستغراق في الألم، أو حتى الهروب منه بطرق غير صحية، يجعل الشقاء يتحول من كونه مجرد “جزء من الحياة” إلى معاناة دائمة تستهلكنا.
وهنا يتجلى الفرق بين الشقاء المرضي والشقاء الاعتيادي: الأول يعيقنا عن عيش الحياة، يحبسنا في دوائر مغلقة من الألم، بينما الثاني هو مجرد حالة من حالات الوجود، لا تمنعنا من الاستمرار، بل قد تصبح دافعًا لتطوير أنفسنا.
السعادة كاعتياد وليس كنشوة
كما أن الإفراط في الالتفات للشقاء يحوله إلى مرض، فإن الإفراط في السعي وراء السعادة يحولها إلى وهم. فكرة أن الحياة يجب أن تكون سلسلة متصلة من النشوات واللحظات العظيمة هي فكرة تخلق الخيبة أكثر مما تحقق الفرح. السعادة ليست محطة نصل إليها، بل طريقة عيش؛ هي أن نجعل من اللحظات العادية شيئًا يستحق أن يُعاش، دون الحاجة لمبالغات.
هنا تذكرني مقولة جلال الدين الرومي بحقيقة بسيطة لكنها جوهرية: “كل ما يزيد عن الحاجة هو سم”. ليس فقط الحزن أو الألم، بل حتى الثروة، الحب، النجاح، وحتى السعادة نفسها—إذا سعينا إليها بهوس، فقد تتحول إلى عبء يفسد علينا لحظتنا الحاضرة.
فن التوازن: كيف نحيا بين النقيضين؟
السر إذًا يكمن في التوازن، في ألا نبالغ في التعلق بالشقاء ولا في الهوس بالسعادة. أن نسمح لأنفسنا بأن نحزن دون أن نغرق، وأن نفرح دون أن نصبح عبيدًا للفرح. أن ندرك أن الحياة ليست صراعًا دائمًا بين النقيضين، بل هي مزيج متوازن بينهما، وهذا التوازن هو ما يجعلها جديرة بأن تُعاش.
قد لا يكون هدف الحياة أن نكون سعداء طوال الوقت، لكن يمكننا أن نجعل السعادة جزءًا من إيقاعها، كما نجعل الألم مجرد لحظة عابرة لا تستوطن أرواحنا. وعندها، نكون قد انتقلنا من الشقاء الاعتيادي إلى حياة تستحق أن تُعاش.