بقلم: محمد زغله
في زمنٍ تتسارع فيه الأحداث وتشتعل فيه الشاشات كل ثانية، يظل السؤال الذي يشغل كل صحفي وكل قارئ قديم العهد بالجريدة:
هل انتهى زمن الصحافة الورقية؟ أم أن ما نراه ليس موتًا بل ميلادًا جديدًا بثوب مختلف؟
قبل سنوات قليلة، كانت الجريدة رفيق الصباح اليومي، تُفتح مع أول فنجان قهوة.
كانت الصفحات الأولى تحمل الأخبار، والصفحات الأخيرة الأسرار، وبينهما نبض الوطن.
لكن مع صعود الإنترنت ومواقع التواصل، تغيّر المشهد كليًا، وصار القارئ هو من يصنع الخبر وينشره.
تراجع الصحافة الورقية لم يكن مفاجئًا، بل نتيجة إعصار رقمي اجتاح العالم.
الإعلانات هجرت الورق إلى المنصات الإلكترونية، وأرقام التوزيع هبطت عامًا بعد عام،
حتى لجأت بعض الصحف إلى الإصدارات الأسبوعية أو الرقمية فقط.
ومع ذلك، فإن القول بموت الصحافة الورقية مبالغ فيه.
هي لم تمت، بل تمر بمرحلة انتقالية صعبة، أشبه بعملية ولادة جديدة.
فهناك صحف ما زالت تقاوم، تعيد ابتكار نفسها، وتؤمن أن البقاء للأكثر مرونة وتطورًا.
السر لا يكمن في الورق، بل في روح المهنة.
فالخبر الصادق لا يفقد قيمته، والمقال العميق لا يُقاس بعدد المشاهدات.
القارئ لا يبحث عن شاشة أو ورقة، بل عن حقيقة وسط ضجيج الأكاذيب.
لقد تحوّل دور الجريدة من نقل الخبر إلى تحليل الحدث، ومن وسيلة يومية إلى مرجع يوثق اللحظة.
صار القارئ يلجأ إليها عندما يمل من سرعة الإنترنت وفوضى الشائعات.
ففي زمن السرعة، أصبحت الجريدة رمزًا للثقة، وملاذًا لمن يريد المعلومة الصادقة.
وفي حديث جمعني بأحد رؤساء التحرير، قال لي:”الورق قد يخسر سباق السرعة، لكنه يحتفظ بعمقه المهني.”
جملة تلخص صراعًا طويلًا بين الحبر والضوء، بين المصداقية والتسرع.
الجريدة ليست مجرد وسيلة إعلام، بل ذاكرة أمة وشاهد على مراحلها.
رائحة الحبر ما زالت تسكن القلوب، وملمس الورق يربط الأجيال بالماضي.
فالبقاء اليوم للصحف التي تدمج الورق بالرقمية، وتستثمر في التحقيق والتحليل،
لأن القارئ المعاصر لا يريد السرعة فقط، بل يريد العمق والوعي.
تتجه بعض الصحف المصرية والعربية اليوم لتجارب جديدة،
تجمع بين النسخة الورقية والإصدار التفاعلي عبر رموز QR،
لتؤكد أن المستقبل ليس للورق وحده ولا للشاشة وحدها، بل للتكامل بينهما.
ورغم قلة القراء، فإن من تبقّى هم النخبة التي تقدر الكلمة وتحترم المهنة.
وفي ختام هذا الجدل، تبقى المقولة الأصدق:
الصحافة الورقية ما زالت حية، تتنفس بصدق، وتتعلم كيف تعيش في عالمٍ جديد.
وربما يأتي يومٌ قريب تعود فيه الجريدة بقوة،
لا لتنافس التكنولوجيا، بل لتذكّرنا أن الحبر أصدق من الضوء.
