بقلم: أحمد رشدي
كان “يوسف” عازف كمانٍ شابًّا يعزف في المقابر.
نعم… المقابر.
لم يكن الناس يفهمون سرَّه، لكنه كان يقول:
“الروح تحتاج إلى موسيقى كي تتذكّر طريقها.”
في كل مساء، يحمل كمانه الأسود ويتسلّل إلى المقبرة القديمة عند طرف المدينة،
حيث لا يجرؤ أحدٌ على البقاء بعد الغروب.
يجلس بين شواهد القبور، يعزف لحنًا لا يعرف له اسمًا، لحنًا لا يُشبه أي نغمة سمعها بشر.
في البداية كان يعزف للهدوء…
ثم بدأ يسمع تصفيقًا خافتًا يأتي من بين القبور.
ضحك، ظنّه خيالًا…
لكن في الليلة الثالثة،
حين انتهى من عزفه، وجد على شاهد قبرٍ قديم وردة ذابلة وكلمة محفورة:
“تابع.”
لم يكتب أحد تلك الكلمة.
كان الحجر متآكلًا منذ سنين،
لكنه الآن بدا حديثًا كأنه نُقش للتو.
شيئًا فشيئًا، صار يشعر أن المقبرة تُصغي إليه.
الهواء يبرد حين يخطئ في نغمة،
والنسيم يلين حين يصيبها.
ثم، ذات ليلة، عند منتصف اللحن، انكسر وتر الكمان فجأة،
وسمع صوتًا ناعمًا خلفه يقول:
لا تتوقف… لقد انتظرنا طويلًا.
استدار ببطء،
فرأى فتاة ترتدي ثوبًا رماديًا يشبه الضباب، وشعرها طويل كأنه امتداد الليل نفسه.
قال مرتعبًا:
من أنتِ؟
ابتسمت وقالت:
أنا التي كنتَ تعزف من أجلها دون أن تدري.
اقتربت منه، وجلست إلى جواره،
ولم تلمس الأرض.
هل… هل أنتِ ميتة؟
وهل ما تحيا عليه أنتَ يُسمّى حياة؟
ثم أشارت إلى الكمان،
وقالت بهدوءٍ آسر:
– اعزف النغمة الأخيرة،
دعها تكتمل… سيُفتح الباب بعدها.
لم يفهم معنى الباب، لكنه أطاع.
عزف ببطءٍ،
واهتزّ الهواء، وبدأت القبور تُصدر أنينًا خافتًا.
وفي اللحظة التي خرجت فيها النغمة الأخيرة، انفجر الوتر بصوتٍ حادٍّ، وصمتت كل الأصوات.
وحين أشرقت الشمس صباحًا،
وجد الحارس كمانًا أسود مكسورًا وسط المقبرة،
وعلى أقرب شاهد قبر،
كُتب حديثًا بخطٍ دقيق:
“هنا يرقد يوسف… عازف النغمة الأخيرة.”
لكن في الليالي المقمرة،
يقسم بعض الزوّار أنهم يسمعون موسيقى خافتة تأتي من بين القبور،
وكأن الموت نفسه صار يعزف ،
كي لا ينسى أنه كان حيًّا يومًا ما.
