الأدب

الحب فوق هضبة المقطم

بقلم: حسن محمد

١

الظلمة تضيف إلى المكان هدوءا مخيفا.. كل شيء أمامك صغير يتراءى مثل النجوم في السماء، كم هي الأشياء جميلة وأنت بعيد!
هنالك عمود إنارة يصدر ضوءا لونه أصفر باهت، يفصل بين كل عمود مسافة مما يجعلك ترى بقعا مضيئة ومظلمة..
تأتي كل دقيقة عربة تسري على مهل تعبر بسلام.. تختفي.. تأتي أخرى
.. يتكرر المشهد.. ملل!
هناك من يكسر الملل: يأتي سائق متهور لا يخاف يطير..

أما أنا.. أنا السائق بلا كشافات تنير طريقي.. أنا الأعمى المتكيء على عكاز يسندني يوما وأهتدي سبيلي.. وساعة أهرول فأقع.. ولحظة بلا هذا الصوْلجان أسير في الطريق لا ألوي على شيء فأوصل!

منظر سريان السيارة وحدها في الطريق المعتم مرعب.. ومخيلتي الواسعة الغارقة في أفلام الرعب تتساءل: أيظهر شبحا بجانب العمود يلوح لي، أم سيهجم على العربة؟
من أين يأتي الشبح؟ وحدي من لاحظ ذلك، ما جرى بعيني، بعقلي؟ أفق.. لا تنظر.. لا تهتم..
إلى السماء مرة أخرى.. إلى السماء..
أنا وحيد يحتاج إلى الونس..
أنا مشتاق وجدت نفسي في الأشياء..
أعكس كل شيء أم يُعكس علي: أفاعل أم مفعول؟
يُخال إليّ أن الأنظار ترمقني لكن لا أحد يهتم..
انا وحدي والليل والقمر. رغم الأصحاب.
انا وحدي رغم غنى الرفاق.
كان غناؤهم -كله- عن الوحدة والحنين والشوق..
وأين الحب بينهم؟
الحب هو الشوق بعد الفراق..

٢

الله.. الله..
أدرك عظمة الله بالتأمل في الوجود..
أنا الإنسان محدود النظر والبصيرة.. أرى الاشياء ليست كما هي.
عيناي مرهقتان تعكسا ضبابية ما في داخلي ونفسي..

أرى كلبا يتجول يرتعد من الجوع
لكن الرزاق موجود..
لا تشغل بالك، لكنه وحيد! ربما لو كان هناك نباح يؤنسه لكانت مشقة البحث هينة..
الكلب أستاذ في الوفاء..
ما الوفاء؟
-الصادق في الحب..
ما الحب؟
-الحب إنسانية ورحمة..
هل الإنسان كلب؟
-لا، لم نصل إلى هذه الدرجة من الإنسانية!
-هل الكلب إنسان؟
-نعم…
– والعقل؟
– مالي أنا والعقل.. فليذهب إلى الجحيم، إن كان العاقل بلا رحمة..

٣

القمر أمامي يسري خلف سحب ضبابية.. أيشعر بالوحدة أم السحاب يجري معه حديثا. أم أنهما يبعدان عن بعض بحجم بُعدنا.

آه لو آتيتي يا قمري وأنا السحاب المغيم..
سامحيني،
سيذهب مني إليكِ بعض الغيوم، وربما كلها،
ويمكن أن تختفي عن الأنظار.. أناني أنا؟ ألا يكفي اقترابي ونظرتي وحدي؟ أجاوب أنا: ربما، لا احتمال..
نعم، استحالة.. لأ.. معقول، أصبتَ الجواب..

القمر نرجسي، يا سيدتي، يريد الظهور..
كيف حصل على نوره؟
مِن الشمس.. مَن الشمسُ؟
لستُ أنا الشمس المضيئة.. كنت أتمنى!
ولو كنت، لابتعدتْ عني الأنظار…
لا أحد ينظر إلى الشمس. كلهم يتحاشونها خلف «نضارات»، يتأففون من حرارتها.. ينادون بقدوم الشتاء!

إذا من أنا؟
أنا سحاب معتم بالغيوم ملبد..
لا تقلقي،
وجدت لقلبي تفسيرا لكِ عن البعد..
فأنا تهديد لكِ عن الوجود.. فكان الهجر؟

لا تحزن،
سأبحث لكَ عن تفسير للهجر..
لكن لو سألتي-آه لو كنتي تهتمين بالسؤال- لمَ السحاب؟
لقلت: السحاب يشبهني جدا.
فأنا مجرد عابر في أنظار الهاربين..
أنا مجرد متطفل في عيون العاشقين..
افرحي.. ارقصي.. طيري يا عصفورة
فأنتِ القمر الذي يبحث عنه جميع العالمين..

واهمٌ أنا…
توهمتُ أنني دِرعٌ لكِ من بنادق الصيّادين..
فأنتِ الهدف.. أنتِ الرجاء..
في دائريتكِ تبهرين.. في هلاليتِك تعجبين..
وفي غيابك يبحثون عنكِ سائلين: أين القمر؟
تردين بصوتك الحُلو: أنا وراء السحاب..
ابعدوه عني، أريد الظهور..

ما ذنب القمر والشمس والنجوم؟
أنا مجرد محب وجد ضالته مع السحاب..
أمطرتُ في وجودكِ.. والصيف ثانينا
وجُفتْ الدموع في غيابك.. والشتاء ثالثنا..

معا كنا نقول: أنا أنتَ.. أنتِ أنا واحد والعد من بعدنا اثنان
أسمع بني البشر في اختفائي قائلين:
السماء صافية اليوم والقمر بدور..
يا جمالية الوجود.. يا كمالية الكون
أهذا جزاء الإحسان؟
٤

-يا ستُّ الحُسن..
= من المنادي؟
– عاشق.
= ما حال النداء؟
– رجاء.
= أين أنتَ؟
-ألا تريني؟
= لأ بل أسمعك.. أين أنت؟
-أجلس على كرسي وقت الفَجر..
= أين بالتحديد؟
– فوق هضبة المقطم..
= ثم بعد ذلك؟
– سأنتقل في كل مكان مثل الغَجر..
= أين بيتك؟
– أنا شريد بلا بيت..
= أين وطنك؟
– أنا طريد بلا وطن..
= أين كان وطنك؟
– في السماء..
= ألن تعود؟
– محال، أنا منفيٌّ للأبد..
= وكيف أساعدك؟
– أريد قلبي..
= طِر إليه..
– أطيرِ إليكِ؟!
= معقول!
– لمَ الذهول؟
= لن يطير إنسان!
– إذن ينزل القمر..
= أنت مجنون؟
– لأ، موهوم..
= إذا يا واهما، فلتكن طائرا وتطير..
– أنا عاقل بلا عقل..
أنا إنسان بلا قلب..
أنا طائر بلا جناح؛
فكيف أطير؟
= تحتاج إلى أجنحة.
– كيف حال رِموشكِ؟
= تحتاج إلى سماء وفضاء…
– كيف حال عينيكِ؟
***

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى