عبدالحي كريط – كاتب وصحافي مغربي
تبدو إسرائيل اليوم كما لو أنها تعود إلى نقطة البدء، حيث تصطدم قداسة النص بسيف الدولة، ويستيقظ من رماد التاريخ سؤالٌ لم يُجب عليه بعد: هل يمكن لشعبٍ خرج من التوراة أن يعيش خارجها؟ في شوارع القدس المحتلة لم يكن المشهد مجرد احتجاج ديني، بل استعادة رمزية لصراعٍ أقدم من الدولة نفسها، بين من يعبد النص ومن يؤمن بالسلطة.
الآلاف من الحريديم خرجوا إلى الطرقات هاتفين ضد التجنيد الإجباري، ليس لأنهم يرفضون الجيش كمؤسسة، بل لأنهم يعتبرون أن الجندية هي خيانة للوصية، وأن التوراة، كما قال موسى لبني إسرائيل في البرية، “هي السور الذي يحمي الأمة، لا السيف الذي يقتل باسمها”. لكن المفارقة أن هذا السور ذاته أصبح الآن يُرى كجدار عازل يفصل بين إسرائيل الدينية وإسرائيل السياسية، بين دولةٍ تؤمن بقدسية القوة ودولةٍ تخاف من ضياع النص المقدس في ثكنات الحديد.
ما جرى في القدس لم يكن حدثًا معزولًا، بل ارتدادًا لتاريخٍ طويل من التنازع بين الحاخامات والجنرالات، منذ أن كتب بن غوريون في خمسينيات القرن الماضي اتفاق “الاستثناء”، مانحًا الحريديم إعفاءً من الخدمة العسكرية باعتبارهم “حراس الروح”. يومها ظنّ الجميع أن المسألة رمزية، لكنها اليوم تحولت إلى قنبلة اجتماعية تهدد بانفجار داخلي. فإسرائيل التي تتباهى بتوحيد الشتات اليهودي وجدت نفسها غارقة في انقسامات لا تقلّ عمقًا عن تلك التي ترويها أسفار الملوك القديمة، حين انقسمت مملكة داوود إلى يهوذا وإسرائيل.
تقول المؤسسة العسكرية إن الحرب الأخيرة أرهقت جنودها وأن التهرب من التجنيد أصبح خيانة وطنية، بينما يرى المتدينون أن الدولة نفسها هي الخيانة، لأنها تضع الشريعة تحت وصاية القانون. وهكذا تتحول الخدمة العسكرية من واجب مدني إلى اختبار لجوهر العقيدة، وتتحول المعركة من قضية تجنيد إلى صراعٍ على من يملك تفسير الإيمان.
في خلفية المشهد، يقف نتنياهو على حافة توازن هشّ، يحاول أن يُرضي الجنرالات دون أن يغضب الحاخامات، ويُمسك العصا من طرفيها كما يفعل لاعب سيرك على حبلٍ مشدود فوق هاوية سياسية. فكل تنازل يقدمه للأحزاب الدينية يُفقده دعم الشارع العلماني، وكل تشددٍ يرضي الجيش يهدد بانهيار ائتلافه. وهكذا تجد إسرائيل نفسها اليوم أمام مرآةٍ تشبه مرآة نبوءات إشعيا، حين حذر من أن الأمة التي تُقسِّم نفسها بين المعبد والسيف، ستفقد كليهما.
في الميادين ارتفع الغضب كغيمةٍ سوداء، وسقط فتى من بين الحشود، ليرسم بموته مفارقة إسرائيلية جديدة: دولة تملك أقوى الجيوش لكنها لا تملك سلامها الداخلي. المراهق الذي مات لم يكن ضحية حادث فقط، بل ضحية تناقض أمةٍ لا تزال تبحث عن هويتها بين الحاخام والقائد العسكري، بين جبل سيناء وغزة، بين الوعد القديم وسيف الواقع الجديد.
لقد تحولت التوراة في أيدي الحريديم إلى رايةٍ للمقاومة ضد التجنيد، كما تحولت البندقية في يد الجيش إلى نصٍ بديل يكتب رواية الدولة الحديثة. وكأن التاريخ يكرر نفسه، حين يتحول موسى إلى جنديٍ جديد يحمل الألواح بيدٍ والبندقية بالأخرى، عاجزًا عن الموازنة بين ما هو مقدس وما هو دنيوي.
إسرائيل اليوم ليست على حافة الانقسام فقط، بل على حافة المرآة التي تعكس ضعفها الأخلاقي. فحين يواجه المؤمن السلاح باسم الإيمان، وحين يُساق الفتى من المعبد إلى السجن العسكري، فإن السؤال الحقيقي لا يعود عن قانون التجنيد، بل عن معنى الدولة التي وُلدت من رحم نصٍ مقدس لتتحول إلى آلةٍ من حديد. وربما، كما في سفر الملوك، سيكتشف بنو إسرائيل من جديد أن الممالك لا تسقط حين تُهزم في المعارك، بل حين تفقد قدرتها على أن تؤمن بما تقول.

