بقلم: أحمد رشدي
لم أكن أبحث عن الحب ابدا
، كنت أبحث عن سكينةٍ
تشبه النوم بعد تعبٍ طويل،
عن صوتٍ يُعيد إليّ المعنى
حين يختنق العالم بالصمت.
وحين رأيتها،
لم أعرف هل كانت صدفةً أم موعدًا مكتوبًا في كتابٍ لا أذكر أنني قرأته.
ولكنى رأيتها..
كانت تجلس دائمًا على المقعد الحجري في حديقةٍ مهجورةٍ عند طرف البلدة،
يلفّها ضوء الغروب
كأن السماء تسكب عليها حنينها.
شعرها منسدلٌ بهدوءٍ على كتفيها،
وملابسها بسيطةٌ على نحوٍ لا يليق بجمالٍ يربك النظر ويخطف القلب .
في أول لقاء،
كنتُ عابرًا… ثم توقفتُ دون وعي.
قالت لي بابتسامةٍ صغيرة:
“أنت لا تبدو من هنا.”
قلتُ ضاحكًا:
“ولا أنتِ… كأنكِ ضيفة على هذا المكان.”
ابتسمت،
نظرت إلى الأفق، وقالت:
“أنا أعود دائمًا…إلي هنا.”
منذ ذلك اليوم، صرتُ أعود أنا أيضًا.
كنت أجدها في الموعد نفسه،
في المكان نفسه،
تجلس صامتةً تنتظرني.
كنا نتحدث عن كل شيءٍ ،
عن الكتب التي لم نقرأها،
والأغاني التي لم تُكتب بعد،
والأحلام التي لا تكتمل أبدًا.
كنت أسمعها أكثر مما أراها،
كانت كلماتها تسكنني بطريقةٍ غريبة،
تشبه الذكريات .
وفي مرةٍ، أمطرت السماء بغزارةٍ مفاجئة،
فهربنا إلى كوخٍ خشبيٍّ قريبٍ من البحيرة.
كان المطر يعزف على السقف لحنًا كئيبًا، فابتسمتْ وهي تقول:
“أجمل الأصوات هي التي تُذكّرك أنك حي.”
قلتُ لها وأنا أمدّ يدي نحوها:
“وهل أنتِ حية؟”
ضحكت بخفةٍ وقالت:
“ربما.”
لم أعرف كيف بدأتُ أحبها،
ولا متى صار وجودها ضرورياً كالنفس.
كنت أكتب عنها كل ليلة،
عن عينيها الرماديتين اللتين تلمعان حتى في ظلام الليل ،
عن لمستها الباردة الدافئة ،
وذات مساءٍ،
تأخرتُ عن موعدنا للمرة الأولى.
حين وصلتُ،
لم أجدها.
جلستُ على المقعد الحجري أنتظرها،
حتى حلّ الظلام.
مرّ شيخٌ من البلدة،
فسألته عنها،
فوضع يده على كتفي وقال بهدوءٍ غريب:
“يا بني…
من سنين طويلة لم يجلس أحدٌ على هذا المقعد.
كانت تجلس عليه فتاةٌ اسمها سلمي،
غرقت في البحيرة ليلة المطر.”
تجمّدتُ في مكاني،
ضحكتُ بلا وعيٍ كأنني أرفض التصديق.
ركضتُ نحو الكوخ الخشبيّ،
فتحته بعنف،
فوجدتُه خاليًا إلا من مرآةٍ صدئةٍ على الحائط.
اقتربتُ منها ببطءٍ،
فرأيتُ خلفي ظلًّا يتحرك…
ظِلّها…
قالت بصوتٍ ناعمٍ كالنسيم:
“تأخّرتَ هذه المرة.”
نظرتُ إلى المرآة،
فلم أرَ وجهي،
بل وجهها فقط.
كانت تبتسم.
ومنذ تلك الليلة، لم يرَني أحد في البلدة.
لكنهم كانوا يقولون إنهم يرون على المقعد الحجري كل مساءٍ شابًا وفتاةً ،
يتحدثان بهدوءٍ
تحت المطر..
