كتبت/نجده محمد رضا
يُعَدّ قاسم بك أمين واحدًا من أبرز رموز النهضة الفكرية والاجتماعية في مصر والعالم العربي في مطلع القرن العشرين، وهو المفكر الذي لقّب بـ”محرّر المرأة” لما أحدثه من ثورة فكرية جريئة في زمنٍ كانت فيه الدعوة إلى تعليم المرأة ومشاركتها في الحياة العامة تُعد من المحرّمات الاجتماعية.
وُلِد قاسم أمين في عام 1863 بمدينة الإسكندرية لأبٍ تركي وأمٍ مصرية من أصول صعيدية. تلقّى تعليمه الأولي في مدارس القاهرة، ثم التحق بمدرسة الحقوق الخديوية، وبعدها سافر في بعثة دراسية إلى فرنسا ليدرس القانون في جامعة مونبلييه خلال إقامته هناك، تأثّر بالفكر الأوروبي الحديث، خاصةً أفكار الحرية والمساواة والعدالة الاجتماعية، وهي القيم التي شكّلت لاحقًا الأساس الذي بنى عليه مشروعه الفكري والإصلاحي.
بعد عودته إلى مصر، عُيّن قاضيًا في المحاكم الأهلية، واشتهر بنزاهته ودقته في الأحكام، لكنه لم يكتفِ بالعمل القضائي، بل انخرط في ميدان الفكر والإصلاح الاجتماعي. كانت بداياته الفكرية مرتبطة بصداقته مع الزعيم الوطني مصطفى كامل والمفكر محمد عبده، اللذين شاركهما الإيمان بضرورة إصلاح المجتمع المصري من جذوره عبر العلم والتربية والعدالة.
أحدث قاسم أمين ضجة فكرية كبيرة بإصداره كتابه الأول “تحرير المرأة” عام 1899، الذي دعا فيه إلى تعليم المرأة وتمكينها من المشاركة في الحياة الاجتماعية، معتبرًا أن تقييدها بالجهل والعزلة هو أحد أسباب تخلّف الأمة. قال في كتابه إن “الأمم لا تنهض إلا بنهضة نسائها”، مشيرًا إلى أن المرأة هي المدرسة الأولى للأجيال، وإن إصلاحها هو الطريق إلى إصلاح المجتمع بأكمله.
لكنّ العاصفة الفكرية لم تهدأ، بل اشتعلت أكثر بعد نشره كتابه الثاني “المرأة الجديدة” عام 1900، الذي كان أكثر جرأة وصراحة، إذ تناول فيه قضايا الحجاب والاختلاط وحرية المرأة في التعليم والعمل، مؤكدًا أن الإسلام لم يفرض الحجاب بمعناه الاجتماعي المنغلق، وإنما دعا إلى الاحتشام والكرامة. وقد واجه بسبب ذلك هجومًا عنيفًا من المحافظين ورجال الدين، الذين اتهموه بتقليد الغرب والانفصال عن القيم الإسلامية، لكنه ردّ بأن دعوته نابعة من فهم صحيح للدين ومقاصده في العدل والمساواة.
كان قاسم أمين يرى أن قضية المرأة ليست قضية منفصلة، بل هي جزء من مشروع النهضة الوطنية الكبرى. فنهضة الأمة لا تكتمل إلا بتحرير عقل المرأة والرجل معًا من قيود الجهل والتعصّب. كما كان من أوائل المفكرين الذين ربطوا بين الاستعمار والجهل الاجتماعي، معتبرًا أن ضعف المرأة أحد الأسباب التي سهلت على المستعمر السيطرة على الشرق.
كان قاسم أمين إسلاميًّا حديثًا، وأحد مؤسسي الحركة الوطنية المصرية وجامعة القاهرة. يُنظر إليه تاريخيًّا على أنه أحد أوائل «النسويين» في العالم العربي، رغم أنه انضم إلى الحديث حول حقوق المرأة في وقتٍ متأخرٍ نسبيًّا من تطوّره. وكانت «النسوية» في عصره موضوعًا يثير جدلًا علميًّا واسعًا بين المفكرين والمصلحين.
وقد لُقّب قاسم أمين بـ«محرر المرأة» تقديرًا لدوره الريادي في الدعوة إلى نهضتها ودفاعه عن حقوقها في التعليم والعمل والمشاركة في بناء المجتمع.
لم تكن دعوته للمرأة دعوة سطحية أو مظهرية، بل كانت رؤية إصلاحية عميقة تستند إلى فلسفة تربوية وأخلاقية. فقد طالب بضرورة إعادة النظر في مناهج التعليم، وبأن تُتاح للفتيات فرصة التعليم مثل الفتيان، حتى يصبحن زوجات مثقفات وأمهات واعيات قادرات على تربية أجيال تعرف معنى الحرية والكرامة.
توفي قاسم بك أمين في القاهرة عام 1908 عن عمرٍ لم يتجاوز الخامسة والأربعين، لكنه ترك أثرًا فكريًا عميقًا امتد إلى الأجيال التالية. وقد سار على نهجه عدد من المفكرين والمصلحين، واعتُبر رمزًا من رموز التنوير في مصر الحديثة.
واليوم، وبعد أكثر من قرن على وفاته، ما زال فكره حاضرًا في النقاشات حول حقوق المرأة وقضايا التنوير، إذ أثبتت التجربة أن ما دعا إليه كان خطوة مبكرة في طريق طويل نحو العدالة الاجتماعية والمساواة الإنسانية.
يظل قاسم بك أمين نموذجًا للمفكر الجريء الذي تجاوز حدود عصره ليضع أسس فكرٍ تقدّميّ لا يزال يُلهم دعاة الإصلاح إلى يومنا هذا. فهو لم يكن فقط “محرّر المرأة”، بل كان محرّر العقل العربي من الجمود، وصوتًا حرًّا سبق زمانه بإيمانه العميق بأن النهضة تبدأ من الإنسان، رجلًا كان أو امرأة.
