طابا.. حين ينتصر التاريخ وتتكلم الخرائط

في تاريخ الشعوب، هناك قضايا لا تُقاس بمساحة الأرض، بل بوزن الكرامة، وحجم العزة، وعمق الانتماء. “طابا” لم تكن مجرد قطعة أرض صغيرة على طرف الخريطة المصرية، بل كانت اختبارًا صعبًا لوعي الدولة، وإرادة شعب، وقدرة وطن على الانتصار في ميدان مختلف: ميدان القانون والتاريخ والوثيقة.
هذه السلسلة التي نقدمها اليوم، ليست مجرد سرد لأحداث مضت، بل شهادة حيّة على أن النصر لا يُصنع فقط في ميادين القتال، بل أيضًا على طاولات التفاوض، وفي قاعات المحاكم الدولية، وبين دفاتر المحفوظات الوطنية.
سنتتبع في هذه الحلقات خيوط الحكاية من البداية: من التاريخ العثماني، مرورًا بالأطماع الصهيونية، ومرورًا بنكسة يونيو، ونصر أكتوبر، إلى أن نصل إلى لحظة رفع العلم المصري فوق طابا في مشهد أبكى العيون ورفع الرؤوس.
قضية طابا هي درس للأجيال، أن الحق لا يسقط بالتقادم، وأن الوطن لا تُقاس مساحته بالكيلومترات، بل بما يسكنه من كرامة.
قضية طابا
التاريخية
وأصولها
إعداد / انتصار غريب محمد إبراهيم
تحت إشراف/ أ.د.خلف الميري
الجزء الأول
مقدمة
من أهم القضايا الوطنية في العصر الحديث ، هي قضية طابا ، التي نالت فيها مصر حكما تاريخيالمحكمة العدل الدولية بمصرية طابا ، هذه القضية التي اثبتت قوة ومهارة المفاوض المصري، وعكستالأهمية الكبرى لعلم التاريخ والوثائق في قضايا الحدود ، والأمن القومي المصرية .
فلقد كان التاريخ داعما للقانون ، حيث كانت الوثائق والخرائط التاريخية ، من أهم الأدلة التي دعمتجهود رجال القانون في إثبات حق مصر في طابا ، وإثبات أنها مصرية . من خلال جهود كوكبة منالمؤرخين على رأسهم أستاذ التاريخ الحديث والمعاصر د. يونان لبيب رزق ، الذي أعد المرجعيةالتاريخية ، المدعومة بالوثائق والخرائط التاريخية التي حصل عليها من دار المحفوظات ، وعُهد إلىأستاذ التاريخ الحديث والمعاصر د. خلف الميري ، بتسليمها وزارة الخارجية المصرية بها ، مما دعمموقف مصر والمفاوضين المصريين . هذا إلى جانب كوكبة من أساتذة القانون الدولي ، وعلى رأسهمأستاذ القانون الدولي د. مفيد شهاب، الذين استطاعوا تقديم الأدلة القانونية الكافية لإثبات مصرية طابا.
وقد اتبعت الباحثة منهج البحث التاريخي التحليلي، في إعداد هذا البحث، الذي اختارت موضوعه، إيمانامنهابأهمية علم التاريخ ، كسلاح من أسلحة الأمن القومي وحسم الخلافات الحدودية بين الدول.
وقد تناول البحث، التعريف بسيناء وبطابا كجزء منها، والأهمية الاستراتيجية والجغرافية والسياسيةوالعسكرية لها، بالنسبة لمصر عبر التاريخ، كخط دفاع أول عن الحدود الشمالية الشرقية لمصر منذ فجرالتاريخ.
كما تناول الأصول التاريخية لمشكلة الحدود والخلاف عليها في طابا المصرية، منذ العصر العثماني،ومحاولات اليهود لإقامة دولة لهم على أرض سيناء، وموقف الحكومات المصرية المتعاقبة، والأسانيدالتاريخية والقانونية التي تثبت أن طابا مصرية منذ أقدم العصور.
وفي النهاية ، استعرضت الباحثة مراحل الخلاف بين مصر وإسرائيل بعد معاهدة السلام 1979،واسترجاع مصر لكامل أرض سيناء 1982، فيما عدا طابا، التي أدعى الجانب الإسرائيل عدم مصريتها ،ولجأ الجانب المصري للتحكيم الدولي، حتى كللت الجهود المصرية بالحكم التاريخي ، بأحقية مصر فياسترجاع طابا والتأكيد على مصريتها.
تمهيد
التعريف بطابا:
تقع مدينة طابا في شبه جزيرة سيناء ، في منطقة رأس خليج العقبة، وللمدينة قيمة حضاريّة وتاريخيةعريقة، وذلك لكونها تطلّ على أربع دول عربية، وهي فلسطين، والأردنوالسعودية، والجمهورية المصرية،وهي آخر نقطة مأهولة بالسكان على الحدود المصريّة الأردنيّة.
أهمية سيناء عبر التاريخ:
توطن المصريون القدماء في سيناء واستخرجوا منها الفيروز منذ أقدم العصور. وسيناء اسم عربي قديمسامي الأصل مشتق من اسم القمر( سين) ، ومن هذا جاء اسم سيناء وسيناي في اللغات الأجنبية.
وكانت تعرف باسم : تامفكات ( أرض الفيروز) علي اعتبار انها كانت تضم محاجر الفيروز الذي أحبهالمصريون.
تقع شبه جزيرة سيناء في قارة آسيا ، يربط افريقيا بآسيا ، الطريق الحربي الكبير في شمال سيناء ، كانيعبر من خلاله المصريون القدماء عند قيامهم بالحملات العسكرية نحو آسيا ، أو لصد هجوم الأعداءعلى مصر ، وكان يعرف في النصوص المصرية القديمة باسم طريق حورس ويبدأ من قلعة ثارو بالقنطرةشرق ويتجه شمالا قرب تل الحير ثم بئر رمانه وقتية والعريش والشيخ زويد ورفح.
وسيناء على شكل مثلث قاعدته في الشمال وضلعيه خليج العقبة شرقا ، وينتهي بمدينة العقبة ، وأمالرشراش وخليج السويس غربا وينتهي بمدينة السويس وقاعدة المثلث تبلغ 200 كيلو متر مربع منبورفؤاد غربا حتى رفح شرقا ، على امتداد البحر المتوسط ، ورأسه جنوبا عند رأس محمد ، التي تبعد عنساحل البحر المتوسط 390 كيلو متر مربع ، والضلع الغربي للمثلث 510 كيلو متر مربع ، ويشمل خليجالسويس والقناة ، والضلع شرقي للمثلث 455 كيلو متر مربع ، ويشمل خليج العقبة والخط الوهميللحدود السياسية الشرقيه لمصر. وتبلغ مساحة سيناء 61000 كيلومتر مربع أي 6% من مساحة مصرالتي تبدو مليون كيلو متر مربع .
وعن أهمية موقع سيناء الاستراتيجي ، يذكر جمال حمدان ان خط الدفاع الأول عن الحدود المصريةيمتد من رأس خليج العقبة حتى زاويه او كوع البحر المتوسط في منطقة العريش ويبدأ الخط عند طاباورأس النقب على الخليج في منطقة مهمة استراتيجيا حيث في دائرة صغيرة تتقارب حدود اربعه : مصروفلسطين المحتلة والأردن والسعودية.
وكانت سيناء أحد أهم المعابر البشرية خلال سنوات طويلة من الفتح الإسلامي الذي كان مشجعًا لبعضالعناصر البدوية في شبه جزيرة العرب ، للنزوح إلى سيناء والاستقرار بها ، مما شجع علي انتشار الإسلامبين سكانها.
في عهد الصليبيين قام بلدوين الأول (حاكم بيت المقدس ) الصليبي ، بتشييد قلعة حصينة في “أيلة” علي ساحل خليج العقبة؛ ليستطيع التحكم في الطريق البري للقوافل بين مصر والشام، كما قام بتشييدقلعة ثانية في “جزيرةفرعون” الواقعة في مواجهة “أيلة“، وبذلك تمكن الصليبيون من الإشراف على شبهجزيرة سيناء التي أخذت تحرك في قلوبهم ذكريات ومشاعر دينية عزيزة عليهم.
قام صلاح الدين الأيوبي بتعمير وإصلاح ميناء الطور ففي عام 1184 م، حيث أصلح السفن والميناء،وبدأت تصله السفن المحملة بالبضائع من اليمن، وبعد ذلك صارت الغلال ترسل إلي الحجاز بصورةدورية ومنتظمة، وشجع ذلك حركة التجارة في البحر الأحمر، وشيد صلاح الدين بسيناء ، قلعته الشهيرةبجزيرة فرعون ، وقلعة “الجندي” برأس سدر، وقد تمكن صلاح الدين من استغلال البيئة المحيطة فيبناء القلعة.
ويعد العصر المملوكي بداية لمرحلة من الاستقرار في سيناء؛ نتيجة لتوقف موجات الهجرة العربية،والاهتمام الملحوظ بطريق الحج إلى مكة والمدينة . وتغير مركز سيناء بداية من القرن الرابع عشرالميلادي، فبعد أن كانت منذالفتح الإسلامي مجرد قنطرة تعبرها القبائل المختلفة من بلاد الحجازوالشام في طريقها إلى وادي النيل ، صارت منطقة تلجأ إليها القبائل.
أما العثمانيون ، فقد اهتموا بسيناء اهتماما بالغا ؛نظرالإدراكهم أهميتها الاستراتيجية والتجارية ، وراجتحركة التجارة بين مصر والشام ، مما كان له أثره على سكان سيناء الذين يقومون بنقل التجارة بينالبلدين ، حيث كانالطريق البري هو الطريق المفضل لنقل البضائع لرخص تكلفته وسهولته ، واهتمتالدولة بهذا الطريق وتأمينه.
أبرزت الحملة الفرنسية من جديد أهمية سيناء الاستراتيجية والدفاعية ، وأحيت فكرة شق قناة بينالبحرين الأحمر والمتوسط .
وفي عهد محمد علي ، تم إنشاء محافظة العريش ضمن التشكيلات الإدارية التي وضعها، وأثناء تلكالفترة تم القيام بالعديد من الإصلاحات والخدمات الهامة، فتم تنظيم حركة البريد لأول مرة عبر سيناء ،وذلك عن طريق قوافلالجِمال وجعل محطات رئيسة لها في مدن القنطرة قطية وبئر العبد ، وبئر المزار،العريش ، الشيخ زويد، ونشر الخفراء على طول مناطق الآبار؛ حتى يضمن عدم هدمها وبقائها صالحةللاستخدام.
واهتم عباس حلمي الأول بزيارة سيناء والتجول فيها على أنها مركز استراتيجي إلى بلاد الشام ، واطلعبنفسه على ما تذخر به سيناء من أهمية سياحية واستراتيجية بالغة وأمر وقتها بتجهيز طريق يربط بيندير سانت كاترين طور سيناء وبين قمة جبل موسى، وأمر ببناء مقر له لازال باقيا فوق أحد الجبال غربجبل موسى، وطرح فكرة إقامة مصيف لاستغلال المياه الكبريتية قرب الطور.
كما اهتم الوالي سعيد باشا بتأمين طريق الحج وأنشأ المحجر الصحي عند الطور، وفي عهده ، دخلتسيناء طوراجديدا ، بمنحه امتياز شق قناة السويس لشركة فرنسية.
وقد تغيرت خريطة سيناء في عهد الخديوي إسماعيل مع بداية شق قناة السويس وجعلتها شبه جزيرةبهذا المانع المائي العظيم ؛ ليكون له دور مهم في تاريخ مصر الحديث، وظهرت مدن جديدة مثلالقنطرة شرق. وعلى الشاطئالغربي للقناة ظهرت الإسماعيلية وبورسعيد والقنطرة غرب، وتضاعفتالبعثات العلمية ، لدراسة أحوال سيناء والموارد التي تزخر بها.
حدثت تغييرات إدارية في عهد الخديوي توفيق ، بتعيين محافظ ملكي على العريش ، يعاونه بعض رجالالبوليس.
كذلك اهتمت بريطانيا بسيناء اهتماما كبيرا ، قبل وأثناء فترة الاحتلال البريطاني لمصر، وأنفقت علىالبعثات العلمية ، وعمليات المسح.
وكانت سيناء مسرحا للعمليات العسكرية ، ولمعسكرات القوات البريطانية أثناء الحرب العالمية الأولى1914 -1918 ، وكذلك أثناء الحرب العالمية الثانية 1939 – 1945.