بقلم د.نادي شلقامي
تُعدّ العلاقة الزوجية مصدراً أساسياً للدعم العاطفي والاستقرار، ولكن عندما تتحول إلى بيئة مشحونة بالتوتر المستمر وكثرة الخصام، فإنها تتحول إلى عامل ضغط مزمن يُهدد الصحة الجسدية والعقلية للطرفين. وقد أشارت العديد من الدراسات العلمية والطبية إلى وجود صلة وثيقة ومُثبتة بين الإجهاد النفسي المزمن الناجم عن الخلافات الزوجية وبين زيادة خطر الإصابة بأمراض القلب والأوعية الدموية الخطيرة، بما في ذلك الجلطات والذبحات الصدرية، وربما الموت المفاجئ. هذا التقرير يُحلل هذه العلاقة ويقدم حلولاً جذرية.
أولا…الآثار أو الآلية البيولوجية للتوتر المزمن على القلب والأوعية الدموية.
الخصام والتوتر الزوجي المستمر يضع الجسم في حالة “القتال أو الهروب” (Fight or Flight) بشكل دائم، مما يُؤدي إلى سلسلة من التغيرات البيولوجية الضارة:
1- ارتفاع هرمونات الإجهاد (الكورتيزول والأدرينالين):
الخلافات تُحفز إفراز هذه الهرمونات. الارتفاع المزمن والمستمر لهذه الهرمونات يُؤدي إلى:
أ- زيادة معدل ضربات القلب وارتفاع ضغط الدم: مما يُجهد عضلة القلب والأوعية الدموية.
ب- زيادة سكر الدم: مما يزيد خطر الإصابة بداء السكري، وهو عامل خطر رئيسي لأمراض القلب.
2- الالتهاب المزمن (Chronic Inflammation): التوتر يُنشط جهاز المناعة بطريقة سلبية، مما يُؤدي إلى حالة من الالتهاب الجهازي المزمن. الالتهاب هو المحرك الرئيسي لتصلب الشرايين (Atherosclerosis)، وهي عملية تراكم اللويحات الدهنية في الشرايين.
3- تجلط الدم وزيادة اللزوجة:
تزيد هرمونات الإجهاد من ميل الدم إلى التجلط، مما يُشكل خطراً كبيراً للإصابة بـالجلطة (Thrombosis) التي قد تسد شرياناً تاجياً وتُسبب نوبة قلبية، أو تسد شرياناً دماغياً وتُسبب سكتة دماغية.
4- اضطراب ضربات القلب (Arrhythmias):
التوتر المزمن يمكن أن يُطلق نوبات من الرجفان الأذيني أو اضطرابات أخرى في نظم القلب، والتي يمكن أن تُسبب الموت المفاجئ (Sudden Cardiac Death).
5 – السلوكيات غير الصحية:
التوتر الزوجي غالباً ما يُؤدي إلى سلوكيات مُضرة مثل الإفراط في التدخين، سوء التغذية، قلة النوم، وقلة النشاط البدني، وكلها عوامل تزيد بشكل مُضاعف من خطر الإصابة بأمراض القلب.
ثانيا…نتائج الأبحاث والدراسات العلمية
1- أظهرت دراسات أن الأزواج الذين يُعانون من مستوى عالٍ من العداء وكثرة الخلافات لديهم زيادة ملحوظة في مستويات الكورتيزول والبروتين التفاعلي C (CRP)، وهو مؤشر قوي للالتهاب المرتبط بأمراض القلب.
2- وجدت دراسة في “مجلة أرشيف الطب الباطني” أن الأشخاص الذين لديهم علاقات زوجية متوترة لديهم خطر أعلى بنسبة 34% للإصابة بأمراض القلب التاجية.
ثالثا…. الحلول الجذرية والعملية
1- إعادة هيكلة التواصل (الأساس)
1-1- الاتفاق على “وقف الخسارة” (Time-Out): يجب على الزوجين الاتفاق المُسبق على كلمة أو إشارة (مثل “هدنة” أو “توقف”) لاستخدامها فوراً عندما يبدأ النقاش في التحول إلى صراخ أو تجريح. الهدف هو وقف تدفق هرمونات الإجهاد والابتعاد جسدياً لمدة لا تقل عن 20-30 دقيقة لتهدئة الجهاز العصبي، ثم العودة للنقاش لاحقاً بهدوء.
1-2- تطبيق الاستماع الفعّال: التركيز على فهم مشاعر الطرف الآخر واحتياجاته الكامنة بدلاً من التركيز على الرد أو الدفاع عن النفس. استخدم عبارات تعكس الفهم مثل: “أفهم أنك تشعر بالإحباط من هذا الأمر.”
1-3- استبدال “أنت” بـ “أنا”: عند التعبير عن الانزعاج، يجب استخدام عبارات تبدأ بـ “أنا أشعر بـ…” (مثال: “أنا أشعر بالقلق عندما تتأخر دون إخباري”) بدلاً من العبارات الاتهامية التي تبدأ بـ “أنت” (مثال: “أنت دائماً تتأخر وتُهملني”).
2- الفصل بين المشكلة والشخص (إدارة الخلاف)
2-1- استهداف المشكلة لا الشخص:
يجب أن يكون هدف الخلاف هو حل المشكلة المشتركة، وليس إدانة أو إيذاء الشخص الآخر. تجنب الهجوم الشخصي، والانتقادات اللاذعة، أو استخدام تاريخ الخلافات السابقة كسلاح.
2-2- تحديد وقت ونطاق النقاش:
الاتفاق على تخصيص وقت محدد (لا يزيد عن 30-45 دقيقة) لمناقشة موضوع واحد فقط. هذا يمنع الخلافات من الانتشار والتحول إلى نزاع شامل ومُرهق.
2-3- التخلي عن الرغبة في الانتصار:
إدراك أن العلاقة الزوجية ليست ساحة معركة؛ إذا “انتصر” أحد الطرفين، فإن العلاقة كلها تخسر. الهدف هو التسوية المشتركة التي تُلبي احتياجات الطرفين الأساسية.
3- طلب الدعم المتخصص (العلاج الجذري)
3-1- الاستعانة بالمُرشد أو المُعالج الأسري:
في حال تكرار الخصام ودخول العلاقة في حلقة مفرغة من التوتر، فإن هذا هو الحل الجذري الأهم. المُعالج الأسري هو طرف مُحايد ومُدرب يُقدم أدوات مهنية لتحديد الجذور العميقة للنزاع ويعلّم الزوجين تقنيات تواصل صحية لم يعرفوها من قبل.
3-2- التعرف على أنماط التعلق (Attachment Styles):
قد يساعد العلاج في فهم كيف تؤثر تجارب الطفولة أو أنماط التعلق العاطفي للزوجين على طريقة استجابتهم للتوتر والخلاف، مما يتيح التغيير الواعي لهذه الأنماط.
4- الرعاية الذاتية والوقاية البيولوجية
4-1- ممارسة تقنيات الاسترخاء اليومية:
يجب على كل طرف، وبخاصة من يشعر بالتوتر الزائد، ممارسة اليوجا أو التأمل أو تمارين التنفس العميق بانتظام. هذا يُساعد في خفض مستوى الكورتيزول في الجسم بشكل مُزمن، مما يحمي القلب والأوعية الدموية.
4-2- تخصيص وقت للجودة الإيجابية:
الحرص على ممارسة أنشطة مُمتعة معاً بعيدة عن أي نقاشات خلافية (مثل ممارسة هواية مشتركة، نزهة هادئة، أو مشاهدة فيلم). هذا يُعزز إفراز الأوكسيتوسين (هرمون الترابط) الذي يُوازن تأثير هرمونات الإجهاد.
4-3- توفير “فضاء شخصي” (Personal Space): يجب احترام حاجة كل طرف إلى وقت ومساحة خاصة للراحة والتفكير والتفريغ الفردي، مما يُقلل من الشعور بالاختناق والضغط داخل العلاقة.
وختاما…إن التوتر الزوجي المزمن هو بمثابة “قنبلة موقوتة” تهدد ليس فقط سعادة الحياة المشتركة، بل تهدد صميم صحة وسلامة قلب الزوجين وحياتهما. العلاقة بين كثرة الخصام وزيادة خطر الجلطات والذبحات الصدرية والموت المفاجئ هي حقيقة علمية مثبتة ترتكز على آليات بيولوجية واضحة (ارتفاع هرمونات الإجهاد، الالتهاب، وتجلط الدم).
لذلك، يجب أن يُنظر إلى السعي لحل الخلافات الزوجية وتحسين جودة التواصل على أنه أولوية صحية عاجلة ومُلزمة، تماماً كالإقلاع عن التدخين أو ممارسة الرياضة. إن الاستثمار في علاقة هادئة ومُتفاهمة هو استثمار مُباشر في طول العمر وسلامة القلب.
