اعترافات قلم..”مأساة في عصر التابلت “!

بقلم: السيد عيد
بينما أجلس كعادتي على مكتبي أحتسي القهوة…
وأنظر إلى ذلك القلم الذي بيدى وتلك الشاشة الباردة التي حلّت مكانه، تحدّق في وجهي بلا روح، كأنها تسخر من وجود قلمي الذي كان في الماضي ملكًا متوّجًا على هذا المكتب، تتحرك يدي به يمنةً ويسرة، وأشعر بفخر عظيم وأنا أخط أحرفه المرتعشة في كتابة مقال، أو أرافقه في دفاتر الملاحظات بحبٍ واهتمام. أما الآن؟ فأصبح مجرد تحفة أثرية، تُستخدم فقط لتقليب صفحات كُتب لم يعد أحد يقرأها!
قلمي الذي كان يومًا سيد الموقف، جالسًا على عرش العلم، لا يُكتب حرف إلا بأمري، ولا يخط فكرة إلا بمدادي. كان رفيق الأجيال، وكان يعرف أسرار الطلاب أكثر مما تعرفها أمهاتهم. شهد أحلامًا تُولد وأعصابًا تنهار في قاعات الامتحانات، كان أيعضّ حتى الموت في لحظات التفكير العميق، ويلقى بغضب عندما تخذله الأفكار.
لكن فجأة، وجدته مرميًا في درج المكتب، بجوار ممحاة يائسة ومسطرة تعاني البطالة، بينما دخل هذا الدخيل البلاستيكي إلى الساحة.. “التابلت الوزاري”!
هذا الجهاز الذي لا يشعر بآلام الكتابة، ولا يتنفس رائحة الورق، ولا يعرف معنى أن يجف الحبر وسط الإجابة في لحظة مصيرية. حل مكاني ببجاحة، وأخذ الطلاب رهائن تحت سطوة الشاشة الزرقاء، حيث تحولت الدروس إلى” مقاطع فيديو ” والواجبات إلى “نسخ- لصق”، والمذاكرة إلى مجرد انتظار شبكة الإنترنت أن ترحمهم!
في زمن لم يكن فيه الإنترنت يتحكم في العقول، ولم تكن الشاشات تفرض سطوتها على الأعين، أخرجت مصر عباقرة في كل المجالات. أخرجت طه حسين، الذي أضاء ظلامه بالمعرفة، وعباس العقاد، الذي صنع من القراءة حياة، ونجيب محفوظ، الذي خط بأحرفه ملامح مجتمع بأكمله. لم يكن هناك “واي فاي” يُعينهم على البحث، فقط عقول ناضجة، وأوراق صابرة، وأقلام تعرف قيمة الحبر!
المدارس كانت تصنع علماء، لا مجرد حفظة لنماذج الامتحانات. المعلم كان سيد الفصل، ليس مجرد مشرف على “تابلت” يقرر من سينجح ومن سيتجمد في “شاشة التحميل”. الطالب كان يذاكر، لا “يبحث عن الإجابة في جوجل”، وكان الفهم هو أساس النجاح، لا قوة “السيستم” في يوم الامتحان!
أما اليوم؟ فليخبرني أحدكم: كم أديبًا صنعه “التابلت الوزاري”؟ كم عالمًا خرج من رحم “المنصات الإلكترونية”؟ هل ولّد الذكاء الاصطناعي مبدعين، أم فقط حفنة من الطلاب المهووسين بالبحث عن “أسهل طريقة للنجاح”؟
مصر التي أخرّجت لنا أحمد زويل، ومجدي يعقوب، ونجيب محفوظ، لم تكن بحاجة إلى “تابلت” لتعليم أبنائها. كانت بحاجة فقط إلى نظام تعليمي يحترم العقول، لا يختزلها في شاشات باردة وأيقونات تدور بلا نهاية. فإذا كان “التابلت” هو مفتاح التقدم، فأين هم نوابغ عصر التابلت؟ أم أنهم لا يزالون عالقين في مشكلة “السيستم وقع”؟