زكاة الفطر.. عبادة ربانية بين الامتثال والاجتهاد

بقلم/د حمدان محمد
زكاة الفطر عبادة ربانية عظيمة، شرعها الله عز وجل تطهيرًا للصائم مما قد يقع فيه من اللغو والرفث، وتكافلًا بين المسلمين، ورحمةً بالفقراء والمحتاجين، حيث يُفرض على كل مسلم قادر أن يُخرجها مع نهاية شهر رمضان المبارك. وهي عبادة ربانية مالية، لها ضوابطها وأحكامها التي بيّنها النبي ﷺ، كما أنها محل اجتهاد بين الفقهاء في كيفية أدائها.
حكم زكاة الفطر ومقدارها؟
هذه العبادة الربانية واجبة على كل مسلم قادر، وقد ثبتت فرضيتها بالسنة النبوية والإجماع، فقد ورد عن ابن عمر رضي الله عنهما:
“فرض رسول الله ﷺ زكاة الفطر صاعًا من تمر، أو صاعًا من شعير، على العبد والحر، والذكر والأنثى، والصغير والكبير من المسلمين، وأمر بها أن تُؤدى قبل خروج الناس إلى الصلاة” (متفق عليه).
وهذا يدل على أن زكاة الفطر عبادة ربانية ذات بُعد تعبدي ومالي، يتقرب بها العبد إلى الله، كما أنها وسيلة لتحقيق التكافل الاجتماعي بين المسلمين، فهي ليست مجرد صدقة، بل هي فرض على كل مسلم مستطيع.
أنواع زكاة الفطر بين النص والاجتهاد؟
اختلف الفقهاء في كيفية أداء هذه العبادة الربانية، وجاءت الآراء في ذلك على ثلاثة أقوال رئيسية:
1. إخراجها طعامًا فقط:
يرى جمهور العلماء من المالكية والشافعية والحنابلة أن هذه العبادة الربانية يجب أن تُؤدى كما وردت عن النبي ﷺ، أي من أصناف الطعام التي كانت معروفة في عصره، مثل التمر والشعير والزبيب. ويرى هؤلاء أن العبادات الأصل فيها التوقيف، أي الالتزام بالنصوص دون تغيير، لذلك لا يجوز إخراج زكاة الفطر نقدًا.
2. جواز إخراجها نقدًا:
ذهب بعض الفقهاء إلى أن هذه العبادة الربانية يمكن أن تُؤدى نقدًا، ومنهم الإمام البخاري وأبو يوسف تلميذ أبي حنيفة والحسن البصري وسفيان الثوري ورأي لعمر بن عبد العزيز، حيث رأوا أن النقود تحقق مصلحة الفقير في قضاء حاجاته الأساسية، لا سيما إذا لم يكن في حاجة إلى الطعام، بل قد يكون محتاجًا إلى المال لشراء دواء أو ملابس أو سداد دين.
3. جواز إخراجها نقدًا عند الحاجة أو المصلحة الراجحة:
وهذا قول شيخ الإسلام ابن تيمية وبعض الحنابلة والمالكية، حيث رأوا أن هذه العبادة الربانية تُؤدى طعامًا أصلًا، لكن إن وُجدت حاجة أو مصلحة راجحة، كأن يكون الفقير بحاجة إلى المال لسداد دين أو شراء مستلزمات ضرورية، فيجوز إخراجها نقدًا.
!!!بين التمسك بالنص والاجتهاد الفقهي!!!
يرى المتمسكون بإخراج هذه العبادة الربانية طعامًا فقط أنهم بذلك يقتدون بسنة النبي ﷺ، لكن يقال لهم: لماذا لم تقتصروا على الأصناف التي وردت في الحديث مثل الشعير والتمر والزبيب، بل أخرجتم القمح والأرز؟ فإن قلتم بأن ذلك من غالب قوت الناس، فقد اجتهدتم في العبادة الربانية، فلمَ تنكرون اجتهاد غيركم في جواز إخراجها نقدًا عند الحاجة؟
كما أن النبي ﷺ حدد المقدار بالصاع، فلماذا يعدل البعض عن ذلك إلى الكيل والوزن؟ ثم إن الحبوب قد تكون متوفرة لأهل الريف والبادية، لكن ماذا عن أهل الحضر الذين قد لا يستفيدون منها بشكل مباشر؟ أليس المال أيسر لهم في بعض الحالات؟
وقت إخراج زكاة الفطر؟
هذه العبادة الربانية لها وقتان للإخراج:
1/وقت الإباحة: وهو من أول رمضان إلى ما قبل صلاة العيد، حيث يجوز إخراجها خلال هذا الوقت لأي سبب يراه المسلم مناسبًا.
2/وقت الوجوب: وهو عند خروج المسلم إلى المصلى لصلاة العيد، حيث يجب أن يكون قد أخرج زكاته قبل الصلاة، وإلا فهي صدقة وليست زكاة، ومع ذلك لا تسقط عنه بحال من الأحوال، بل يجب عليه إخراجها حتى لو فاتته الصلاة.
!!!مقاصد زكاة الفطر بين التيسير والتكافل!!!
هذه العبادة الربانية ليست مجرد التزام شكلي، وإنما لها مقاصد عظيمة، منها:
1/تطهير الصائم من النقص والخلل الذي قد يكون وقع فيه خلال صيامه.
2/إدخال السرور على الفقراء والمساكين يوم العيد، بحيث لا يحتاجون إلى السؤال.
3/تحقيق التكافل الاجتماعي بين المسلمين، فيشعر الجميع بفرحة العيد دون تمييز بين غني وفقير.
4/تربية المسلم على البذل والعطاء، وتعويده على الإحساس بحاجات إخوانه.
5/إظهار الحق وإعطاء الناس حرية الاختيار
فزكاة الفطر عبادة ربانية عظيمة، تتعدد فيها الاجتهادات، ومن الواجب على من يتحدث عنها أن يبين للناس جميع الآراء، ويدعهم يختارون وفق ما يتناسب مع ظروفهم، دون تضييق أو تعصب لرأي واحد، تحقيقًا لمقاصد الشريعة في الرحمة والتيسير.
فالاجتهاد الفقهي في هذه المسألة لا ينبغي أن يكون مدعاة للتشدد أو التضييق، بل ينبغي أن يكون بابًا للتيسير على الناس، بحيث يُؤدى الحق الشرعي، وتتحقق المقاصد التي أرادها الله عز وجل من هذه العبادة الربانية المباركة.