تقارير

مصر وكسوة الكعبة المشرفة: تاريخ من الشرف والتراث

كتبت -مريم أحمد 

منذ فجر الإسلام، ارتبطت مصر بعلاقة روحية وثقافية عميقة ببيت الله الحرام، وكان لمصر شرف صناعة كسوة الكعبة لقرون طويلة، مما يعكس دورها البارز في خدمة الإسلام ومقدساته.

عند بداية فتح مصر علي يد الصحابي عمروبن العاص. أمر الخليفة عمر بن الخطاب،يطلب منه أن تُصنَع كسوة الكعبة من القُباطي، وهو نوع من القماش الذي كانت تشتهر به مصر في تلك الفترة، ويُنسج يدويًا بدقة. تنافست الدول الإسلامية علي شرف صناعة الكسوة،ونُقلت صناعتها إلي الشام في عهد الدولة الأموية.           لكن مصر استردّت هذا الشرف، وبقيت تصنع الكسوة طوال العصور. وكان أكثر عصر اهتمامًا بها هو العصر الفاطمي. في عهد المماليك وصل الأهتمام إلي درجة خوض المعارك من أجل صناعة الكسوة. المدن المصرية التي تألقت في صناعة كسوة الكعبة المشرفة

على مدار قرون، كانت مصر مركزًا رئيسيًا لصناعة كسوة الكعبة المشرفة، حيث تفننت مدنها في إنتاج هذه الكسوة المباركة، مما يعكس عمق العلاقة الروحية والثقافية بين مصر وبيت الله الحرام.          دمياط ومدنها: شطا وتنيس وتونة وديبق

في العصر الفاطمي، تركزت صناعة كسوة الكعبة في محافظة دمياط، وخاصة في مدن شطا وتنيس وتونة وديبق. اشتهرت هذه المدن بصناعة المنسوجات الفاخرة، وبلغت درجة عالية من المهارة في هذا المجال. وكان يُكتب على الكسوة تاريخ صناعتها والبلدة التي صُنعت بها، وتسجل أسماء الملوك عليها.

حارة الكسوة في حي الجمالية بالقاهرة

في عام 1233هـ (1818م)، أنشأ محمد علي باشا “دار الكسوة الشريفة” في حي الخرنفش بالقاهرة، لتكون مركزًا لصناعة الكسوة. استمر العمل في هذه الدار حتى عام 1962م، حيث توقفت مصر عن إرسال الكسوة بعد أن تولت المملكة العربية السعودية شرف صناعتها.

إلى جانب دمياط والقاهرة، ساهمت مدن مصرية أخرى في صناعة الكسوة، منها:

الفيوم: اشتهرت بصناعة “القباطي”، وهو نوع من القماش الفاخر الذي استخدم في كسوة الكعبة.

الإسكندرية: كانت مركزًا لصناعة المنسوجات خلال العصر المملوكي.

أسيوط: ساهمت في إنتاج الأقمشة المستخدمة في الكسوة.

أخميم ونقادة: مدن صعيدية عُرفت بصناعة النسيج اليدوي.

المحمل المصري: موكب الشرف والروحانية

يُعد المحمل المصري أحد أبرز الرموز التاريخية التي جسّدت ارتباط مصر العميق ببيت الله الحرام. ظهر هذا التقليد في عهد السلطانة شجرة الدر، حيث أُرسل أول محمل يحمل كسوة الكعبة من مصر إلى مكة المكرمة. استمر هذا التقليد لقرون، تحديدًا حتى عام 1962م، مما يعكس مكانة مصر البارزة في العالم الإسلامي.

كان المحمل عبارة عن هودج خشبي فاخر، يُغطى بقماش القباطي المطرز بآيات قرآنية وزخارف إسلامية، يُحمل على جمل، ويتقدمه موكب مهيب يضم الجنود، ورجال الطرق الصوفية، والعازفين، والمبشرين بعودة الحجاج. كان هذا الموكب يطوف شوارع القاهرة لمدة ثلاثة أيام، وسط احتفالات شعبية ورسمية، تتخللها الزغاريد، والطبول، وتزيين المحلات، والرقص بالخيول.

لم يكن المحمل مجرد وسيلة لنقل الكسوة، بل كان رمزًا للأمان والبركة، حيث كان يُرافقه جنود لحماية الحجاج وتأمين الطريق إلى الحجاز. وكان يُشرف على الموكب أمير الحج، وهو شخصية بارزة من رجال الدولة، يُرافقه كاتب يُلقب بـ”الداوادار”، وقاضٍ، ومشرفون على الجمال والخيول، ومسؤولون عن التموين، ومؤذنون، وطباخون، وشعراء، وعازفو طبول، ومبشرون بعودة الحجاج.

عند وصول المحمل إلى مكة، كان يُستقبل بحفاوة بالغة، حيث كان أمير مكة يخرج لاستقباله. وبعد أداء مناسك الحج، يعود المحمل إلى مصر حاملًا الكسوة القديمة، التي كانت تُقطع وتُوزع على النبلاء والأمراء، وما زالت بعض هذه القطع محفوظة في المتاحف، وبعضها الآخر زُيّنت بها أضرحة العائلة الملكية في مصر كنوع من التبرك.

استمر شرف مصر في صناعة الكسوة حتى عام 1962م، حين أُوقفت هذه المهمة بسبب خلافات سياسية بين مصر والسعودية. ومنذ ذلك الحين، أصبحت المملكة العربية السعودية تتولى صناعتها داخل أراضيها.

لكن تبقى آخر كسوة صنعت في مصر محفوظة اليوم في المتحف القومي للحضارة المصرية بمدينة الفسطاط، شاهدةً على عظمة التاريخ المصري ودوره في خدمة البيت الحرام.

لقد كانت مصر، وما زالت، قلبًا نابضًا بحب الكعبة وبيت الله الحرام، وستظل سيرتها في خدمة الكسوة مصدر فخر لكل مصري. وإن زيارة متحف الحضارة لرؤية المحمل والكسوة المصرية هي بمثابة لقاءٍ بين التاريخ والروح، وبين الشوق والقداسة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى