
✍️بقلم/ انتصار عمار
وٰلدت “مارية بنت شمعون”، في قرية حفن، بمحافظة المنيا، في صعيد مصر، نشأت في بيتٍ لأب قبطي مصري، ورع، وأم مسيحية رومية.
كانت حياة مارية حياة عادية كأي فتاة، إلا أنها لم تكن تعلم ما يخفيه لها القدر في جعبته، وكأنه يحمل بين يديه أطواق السعادة.
التي سيطوق بها عنقها، وينثر تحت أقدامها زهرات ربيع دائم، يُلبسها ثوبه، وترحل خماسينه لكوكبٍ آخر، ليس به حياة.
ذات يومٍ، والشمس مسترسلة في غنائها، تشدو بأعذب الألحان، وكأنها تقرأ غيبًا ما سُطر بين طيات السحاب،
وكأنما في السماء شيئًا يخبر بجميلٍ قادم.
وبالفعل في مطلع شبابها، انتقلت مارية مع أختها”سيرين” إلى قصر المقوقس عظيم القبط، و هناك سمعت بظهور نبي في جزيرة العرب.
يدعو إلى دينٍ سماوي جديد، وفي يوم من الأيام أرسل النبي محمد عليه الصلاة والسلام رسوله؛ الصحابي” حاطب بن أبي بلتعة” برسالةٍ إلى المقوقس.
يدعوه فيها لدين الإسلام، والعجيب في هذا الشأن؛ أن المقوقس أحس بشيء من الطمأنينة، وشعر بصدق النبوة في دعوة رسول الله.
ونظرات عينيه كانت تسبح في بحر من السعادة، و كأنها تحمل توقيعه على بطاقة ترشح النبي كرسولٍ، لبعثة الأمم.
فلقد كان المقوقس حاكم مصر على علم بنبوة رسول الله، وأنه يحمل في خلقه آيات النبوة، وأنه ليس بساحرٍ، ولا بكاهن، فهذا مذكور في كتابهم.
لذا آمن به، وصدق على دعوته، لكنه لم يستطع الجهر بذلك، خشيةً معارضة القبط له.
وما كان منه، إلا أنه قام بإرسال هداياه للنبي، والتي كانت تتمثل في كتاب، وعبد كهل، وألف مثقال ذهبًا، وعشرين ثوبًا من النسيج.
وبغل مسرج ملجم، وحمار أشهب، مع الصحابي “حاطب” عند عودته إلى النبي، وكانت من أجمل الهدايا هذه هي؛ النجمة اللامعة.
التي هبطت من أبراج السماء إلى سطح الأرض، كي يسطع بريقها، ويزداد بنور النبي، حيث أرسلها المقوقس هديةً، مع أختها.
وعبرت مارية وسيرين من أرض النيل، إلى جزيرة العرب حيث
واحة الدين، وسماحة الإسلام، وقد قابل النبي هدايا المقوقس بكل ترحاب، وحب.
و أحس حاطب بما داخل الأختين من
ألم الفراق، فأخذ يحدثهما عن تاريخ بلاده العريق، وتحدث إليهما عن النبي، ودعوته للإسلام، فانشرح صدرهما للإسلام.
ومذ أن رأى النبي جمال مارية، أعجب بها، واكتفى بها، ووهب أختها للشاعر “حسان بن ثابت” فأنزلها في بستان، ولم يتزوجها النبي، ولكن كان نكاحها بملك اليمين.
وتروي بعض الروايات إسلامها، بعد قدومها للنبي، وبدعوة مباشرة منه، وكانت مارية جميلة، على قدر من الدين، جعدة الرأس، جذابة الملامح.
وأنزلها النبي في بادئ الأمر بمنزل للصحابي” حارثة بن النعمان” قرب المسجد، بجوار أمهات المؤمنين، وكانت مارية تمتلك مكانة عالية عند رسول الله.
وذات يوم ارتدت فيه السماء حُلة البهجة، وترقرت الدموع بأعين السحاب، فرحًا، وزغردت النجوم، ابتهاجًا بخبر حمل مارية.
وكانت السعادة تترنح بين جنبات قلب مارية، كانت تشعر بفرحة عارمة، وفخر، أنها تحمل بين أحشائها ولد رسول الله، طفل من رحم النبوة.
كما كانت الفرحة تسكن جنبات قلب النبي عليه الصلاة والسلام، إلى أن جاء يوم المخاض اليوم المنتظر الذي يترقبه الجميع، وتتوق لسماعه آذان السماء، والأرض.
ومع آهات، وصرخات الولادة، وضعت مارية طفلًا وسيمًا، يشبه النبي، ويا لسعادة النبي بقدومه!
كان يوم عيد، وكأن الأرض كانت ترقص طربًا، فرحًا بميلاده، وكأن السماء لم تنم ذلك اليوم، بل أقامت حفلًا ساهرًا، تراقصت فيه النجوم، على أناشيد القمر.
وكان قدوم ذاك الرضيع، سببًا في عتق النبي لمارية، وجعلها حرة، وعق النبي عن ولده بشاة،
يوم سابعه، وحلق رأسه، ثم دفن شعره، وتصدق بزنة شعره فضة، وقام بتوزيعها على المساكين.
وسمى النبي ولده”إبراهيم،” وكان عليه الصلاة والسلام يرقب نموه، وكأن قلبه يرتجف خشيةً أن يفقده كما فقد أولاده من قبل.
وبالفعل دومًا الفرحة عمرها قصير، كعمر ثانيةٍ اختلست من الزمن، أنفاس الحياة، فلم تدم سعادة مارية، والنبي طويلًا، فلم تمكث سوى عام.
وحلت الفاجعة، ومرض إبراهيم، في سنٍ صغيرة، ولم يبلغ العامين من عمره، وانطفأت قناديل السعادة، عندما التقط إبراهيم أنفاسه الأخيرة، في حجر النبي.
ومات إبراهيم، والدمع يفيض من عين النبي، كشلال حزن وأسى لفراق صغيره، وما منه وسط حالة الحزن، والوجع، إلا أن يصبر قلب أمه لفراقه، ويقول لها: “إن له موضعًا بالجنة”.
خيم الحزن بقلب مارية، وكأنه استوطن ثناياها، فما كان منها سوى أعين تواري أدمعها، خشية أن تُوجع قلب النبي، وأنفاسٍ تكتم صرخات الصبر، وصلاة دعاء، تناجي فيها ربها، وتناشده السلوان.
واعتكفت مارية في بيتها، وظلت تلملم طرف ثوب الحزن، حرصًا منها على مشاعر النبي، وكلما عجز الصبر عن مداوة قلبها، خرجت إلى البقيع، جوار قبر صغيرها، وحديثها معه أدمع حارقة، كشمس الظهيرة، نهار الصيف.
وها هو البيت تئن جدرانه وجعًا، لمرض النبي، ثم مات عليه الصلاة والسلام، وكأن مارية كانت على موعد مع القدر الباكي، رحل النبي وترك مارية حبيسة أحزانها، طيلة خمس سنوات، تحيا في عزلةٍ من الناس.
لا ترى سوى أختها، وقبر زوجها عليه الصلاة والسلام، وكان موت النبي هو السهم الذي صُوب بصدرها، ففتك بها.
كان موته عليه الصلاة والسلام هو الفاجعة الكبرى، فرغم أنها لم تكن من أمهات المؤمنين، إلا أنها أحبته، ورأت الدين في خلقه، وتحسست سماحة الإسلام في ملامحه.
وأبصرت الرحمة بين جنبات قلبه، مما دعاها للإيمان به، وبرسالته، ودفعها إلى اعتناق الإسلام، وبعد أن انحنى جذع البيت، وكُسر سيف النبوة، بموت رسول الله.
لحقت به مارية بعدة سنوات، وصلى عليها عمر، ودفنها بالبقيع، وكأنه يزفها إلى حبيبها رسول الله، كي تهنأ بجواره.
مارية الفتاة المصرية، بنت النيل، التي تربت على حقوله الخضراء، ونسمات هوائه الربيعية، كانت بمثابة همزة الوصل بين مصر، والجزيرة العربية.
فقد قامت بدعم العلاقات بينهما، من صلة، ونسب، وصهر، وذمة، ورحم عظيمة. كانت لها في قلب الرسول مكانة عالية، كما أن الله آثرها بفخر أمومتها التي لم تدم.
وكأن الله أراد لها الجنة عوضًا عن فقد وليدها، وأجمل ما قيل في مارية:” إنكم ستفتحون مصر، وهي أرض تسمى فيها القيراط، فإذا فتحتموها، فاستوصوا بأهلها خيرًا، فإن لهم ذمة، ورحمة،” وهذا ما كان يوصى به النبي أتباعه.