الأدب

حافظ إبراهيم.. صوت الأمة وقلبها النابض

كتبت/ سالي جابر

في زمانٍ تاهت فيه الكلمات، وذبلت فيه المعاني، بزغ نجم حافظ إبراهيم، ليكون صوت الضمير العربي، ولسان الشعب، ومرآة الأمة. لم يكن حافظ شاعرًا عابرًا، بل كان نبضًا حيًّا يعكس آلام الناس وآمالهم، حارسًا للغة، ناصرًا للحق، وراويًا لتاريخٍ لا يُنسى.

ولد في طميه، ونشأ في كنف الفقر، لكن روحه كانت أغنى من الذهب. نهل من نهر الحياة، وجعل من قلمه مجدافًا يعبر به بحر الألم، ليصل إلى شاطئ المجد. لم تغره المناصب ولا الأضواء، بل آثر أن يكون لسان حال أمته، مدافعًا عن العربية، مشعلًا نار الحماسة في النفوس.

قصائده ليست مجرد أبيات منمقة، بل هي سطورٌ تفيض بالصدق، وصدىً لمعاناة من صمتوا. قال في اللغة فأبكى الحروف، وقال في الوطن فأشعل القلوب، وقال في العدالة فارتجفت له القاعات.

حافظ إبراهيم، الشاعر الذي أنطق اللغة، وجعلها تشكو إليه هجران أبنائها، حين قال:

أَنا البحرُ في أحشائِه الدُرُّ كامِنٌ
فَهَل سَأَلوا الغَوّاصَ عَن صَدَفاتي؟

كان حافظ شاعرًا بوجه ثائر، وروح عاشق. أحب مصر، وذاب في عشقها، فكتب لها، وكتب عنها، وكتب بها. لم تفارقه همومها، ولم يغفل عن قضايا أمته العربية، فظل وفيًّا لقيم الحق، منتصرًا للفقراء، مدافعًا عن اللغة، وقلمًا لا يعرف المساومة.

عبقرية الكلمة وصدق التعبير في شعره

من بين قصائد حافظ إبراهيم، تبرز قصيدته الشهيرة “اللغة العربية تنعى حظها” كصرخة حزينة أطلقها دفاعًا عن لسان الضاد، في زمنٍ بدأ فيه الناس يتهاونون بلغتهم وهويتهم. استعار الشاعر صوت اللغة نفسها، فجعلها تتحدث ككائن حي يئن من الإهمال، فقال:

أَنا البحرُ في أحشائِه الدُرُّ كامِنٌ
فَهَل سَأَلوا الغَوّاصَ عَن صَدَفاتي؟

هنا لا نرى مجرد صورة بلاغية، بل إحساسًا حقيقيًا بالمرارة، وحنينًا دفينًا لعصرٍ كانت فيه اللغة تاج الفكر وأداة الحضارة. استخدم البحر رمزًا للغنى والعمق، في تشبيهٍ يفتح أمام القارئ أفقًا واسعًا لتأمل مكانة اللغة ومصيرها.

وفي قصيدته “مصر تتحدث عن نفسها“، يظهر حافظ في أبهى صوره، حين جعل مصر تتكلم بفخرٍ وشموخ، فتقول:

وقف الخلق ينظرون جميعًا
كيف أبني قواعد المجد وحدي

صوت مصر يعلو هنا على لسانه، فتصبح القصيدة نشيدًا وطنيًا خالدًا، يمجد التاريخ، ويغرس في النفوس روح الاعتزاز والانتماء. لم تكن هذه الأبيات مجرد مدح للوطن، بل تجسيدًا لعبقرية شاعر جعل من الأرض صوتًا ومن التاريخ لحنًا.

أما في شعره الاجتماعي، فقد كان حافظ ناقدًا لاذعًا للظلم والفساد، مدافعًا عن الفقراء، ومناصِرًا للعدالة. كان شعره يمزج بين السهل الممتنع، والرصانة اللغوية، والصدق الوجداني، مما جعله قريبًا من العامة، ومبجّلاً عند الخاصة.

حياة تنبض في كل بيت شعر

لم يكن شعر حافظ إبراهيم منفصلًا عن حياته، بل كان مرآةً صادقةً لها. نشأته اليتيمة، ومعاناته مع الفقر، وخبراته في الجيش والمحاماة، صقلت روحه، وجعلته يرى الحياة بعينين لا تخطئان نبض الناس. لم يكن شاعر قصر، بل شاعر شارع، ينقل أوجاع البسطاء، ويترجم صرخاتهم شعرًا يلامس الوجدان.

كانت لغته مزيجًا من الفصاحة والدفء، لا تعقيد فيها ولا ادعاء، بل صدق ينساب من قلبه إلى قلب القارئ. عُرف بذكائه الحاد، وسرعة بديهته، وروحه المرحة، التي لم تمنعه من حمل قضايا أمته على كتفيه.

رحل حافظ إبراهيم في هدوء، لكنه ترك أثرًا لا يُنسى، وكأن صوته ما زال يتردد كلما خافت اللغة، أو اهتزّ الضمير. لا يزال “شاعر النيل” حيًا في أبياته، في نَفَسِ لغته، في كل نبضةِ حُبٍّ للوطن، وفي كل دمعة تسيل لأجل الكلمة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى