بقلم م/ رمضان بهيج
إن المجتمع ليس مجرد تجمُّع لأفراد متجاورين، بل هو كيان متكامل تتشابك فيه المصائر وتتلاحم فيه المسؤوليات. في هذا النسيج المعقد، تبرز حقيقةٌ جوهرية: نحن جميعًا مسؤولون مسؤولية جماعية تجاه أفعال بعضنا البعض. إن ما يفعله الفرد يتردد صداه في الجماعة كلها، سواء بالخير أم بالسوء، لأننا جميعًا شركاء في السفينة التي تُبحر بنا.
إن طبيعة الإنسان تحمل في طياتها نزعة فردية قوية، ورغبة في التعبير عن الذات وتحقيق ما يراه مناسبًا له. ولكن، ماذا يحدث لو تُركت هذه النزعة دون قيود أو ضوابط تحكمها في إطار المجتمع؟ هل سينتج عن ذلك مجتمع مزدهر ومتناغم، أم فوضى وتفكك؟
لا تخرق السفينة
يقول النبي ﷺ: “مثَل القائم في حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة، فأصاب بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها، وكان الذين في أسفلها إذا استَقَوا من الماء مرُّوا على مَن فوقهم، فقالوا: لو أنَّا خَرَقنا في نصيبنا خَرْقًا ولم نُؤْذِ مَن فوقنا، فإن تركوهم وما أرادوا هلكوا جميعًا، وإن أخذوا على أيديهم نَجَوْا ونَجَوْا جميعًا”.
ويُوضِّح النبي ﷺ بقوله: “إن تركوهم وما أرادوا غرقوا جميعًا”، أي: يدخل الماء السفينة فتغرق. وقوله: “وإن أخذوا على أيديهم نَجَوْا ونَجَوْا جميعًا”، أي: إن منعوهم من خرق السفينة نجوا جميعًا. فهكذا العُصاة هم خَرَّاقو السفينة، والآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر هم الذين يمنعون من خرقها.
يا له من حديث نبوي بليغ وعميق الدلالة! إنه يصور لنا بوضوح مسؤوليتنا الجماعية تجاه أفعال بعضنا البعض، وكيف يمكن لتجاهل المنكر أن يعود بالضرر على الجميع، بينما الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو صمام الأمان للمجتمع بأسره.
دعنا نتأمل هذا التصوير النبوي الرائع: سفينة تبحر في عُباب البحر، وعلى متنها مجموعة من الركاب. يبدأ أحدهم في إحداث خرق في جانب السفينة. لو تركه الآخرون يفعل ما يشاء، بحجة أن هذا شأنه الخاص وأنه حر في تصرفاته، فإن الماء سيتسرب إلى السفينة حتمًا، وسيغرق الجميع بلا استثناء؛ الصالح والطالح، الفاعل والمتفرج.
أما إذا تدخَّل الركاب الآخرون ومنعوا هذا الشخص من إتمام فعلته، مدركين خطورة ما يُقدم عليه وتأثيره المُدمِّر على الجميع، فإنهم بذلك ينجون وينجي معهم ذلك الشخص نفسه من الهلاك.
هذا بالضبط هو حال المجتمع. المعاصي والمنكرات التي تُرتكب فيه هي بمثابة ذلك الخرق في السفينة. قد يستهين البعض بهذه الأفعال ويرونها قاصرة على فاعلها، لكن تأثيرها يتعدى ذلك بكثير؛ إنها تُضعف المجتمع، وتُفسد قيمه، وتفتح عليه أبوابًا من الشرور والمصائب التي قد لا يَسلم منها أحد.
في المقابل، فإن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يمثل التدخل الحاسم لمنع هذا الخرق من الاتساع. إنه تعبير عن الروح الجماعية والمسؤولية المشتركة. عندما يرى أفراد المجتمع خطأً، يسارعون إلى تقويمه بالحكمة واللين، وعندما يرون خيرًا، يشجعون عليه ويدعون إليه؛ فإنهم بذلك يحافظون على سلامة المجتمع وتماسكه، ويَقونه من الوقوع في براثن الفساد والهلاك.
إن هذا الحديث النبوي يدعونا إلى أن نكون يقظين ومسؤولين تجاه ما يحدث من حولنا. لا يجوز لنا أن نتقاعس أو نتجاهل الأخطاء والمنكرات بحجة أنها لا تعنينا بشكل مباشر؛ ففي نهاية المطاف، نحن جميعًا في سفينة واحدة، ومصيرنا مرتبط ببعضنا البعض.
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ليس مجرد واجب ديني، بل هو ضرورة اجتماعية للحفاظ على صحة المجتمع وسلامته. إنه تعبير عن الحب الحقيقي للآخرين، والحرص على مصلحتهم، والرغبة في بناء مجتمع فاضل وقوي.
فلنتأمل هذا الحديث النبوي الشريف بعمق، ولنجعله نبراسًا يضيء لنا طريقنا في التعامل مع أخطاء الآخرين. لنتذكر دائمًا أن سكوتنا عن المنكر قد يؤدي إلى غرق الجميع، بينما قيامنا بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو سبيل النجاة لنا جميعًا.
”في كرة القدم، إذا تفرَّق اللاعبون واعتمد كلٌ على جهده، ساءت النتيجة؛ لكن متى ما اتحدوا وعملوا بروح الفريق، كان الفوز حليفهم.”
الفرد هو أساس المجتمع؛ والمجتمع إنما يحيا بالأفراد المتلاحمين المتماسكين. فلا أحد يستطيع أن يحيا بمفرده، ولا يمكن للمجتمع أن يصلح بأفراد متفرقين.
