بقلم : أحمد رشدي
هناك لحظات
لا يملك فيها الرجل إلا أن يصمت
لا لأنه يريد الصمت
بل لأن الكلام يصبح ضيقاً
والقلب يصبح أوسع من كل الحروف
كأن داخله يمتلئ بما لا يمكن أن يُقال
كنت كلما هممت بالكلام
تراجعت الكلمات
كأنها تخاف الخروج من فمي
كأنها تعرف أن ما في صدري
أكبر من أن تحمله جملة
وأعمق من أن يفسّره صوت
أو يفهمه قلب
فيمتد الصمت داخلي
كالليل حين يهبط على مدينة غافية
يعلو شيئاً فشيئاً
حتى يغطي كل ضوء
ويترك في القلب مساحة
لا يزورها أحد غيري
وفي تلك المساحة المظلمة الهادئة
كنت أحس كأن شيئاً يتحرك في العمق
كهواء قديم
يعود ليمر في الرئتين بعد طول انقطاع
كإحساس عاش ساكنا لسنوات
ثم نهض فجأة ليطالب بحقه
كنت أسمع صوتاً لا يشبه الأصوات
صوتاً يعيد ترتيب خوفي
ويرفع ستائر
ظننت أن الزمن قد أسدلها للأبد
وكأن الصمت ليس سكوناً
بل يقظة كاملة للروح
وعندما يتحدث الصمت
تنطق العبرات ويصحو الضمير
تطير الكلمات من القلب بين الأثير
ويفيض العقل بالقرار
ويلوذ الوهم بالفرار
وتصفو الروح بحلو المشاعر
ويظهر الإيثار وتجلو النظرات
ويزيد الفكر هدوءاً
كأنه يسير على خيط من نور
تتمهّل اللحظة كأنها تخشى أن تنكسر
ويولد في الأعماق صوت لا يُسمع
لكنه يهدي القلب طريقه
ويعيد للروح ما فقدته من سكينة
وخلالها…
تتوقف الكلمات
وتعلو الأحاسيس
وتصرخ المشاعر
ويفيض الشوق
عندما يتحدث الصمت
تهمس القلوب
وتنصت الضلوع ويفيض الحنين
تتحدث الذكريات وتدنو الأمنيات
تكتب السطر الأخير
سطرًا لا يسمعه أحد
ولا يعرفه أحد
إلا قلبي الذي تعلّم أن يبكي دون دموع
وأن يشتعل دون نار
وأن يتألم دون صوت
كنت أخشى الكلام
لأن الكلام يفضح
ويكشف
ويجعل الحقيقة عارية
وأنا رجل اعتاد أن يخفي ما يؤلمه
حتى عن نفسه
فكيف لي أن أقول ما لا أعرف كيف أواجهه؟
كيف أشرح رجفة داخلي
ونبضاً يتسارع بلا سبب
وحلماً يعود كلما أغلقت عيني؟
كان الصمت يحيطني
كمعطف ثقيل
يدفئني أحياناً
ويخنق أنفاسي أحياناً
وفي كل مرة كنت أظنه يرحل
يعود ليمد جذوره في صدري
حتى لم أعد أعرف
هل أنا من يسكن الصمت
أم هو من يسكنني؟
ورغم الخوف
ورغم التردد
ورغم الكلمات التي لا تجرؤ على العبور
كنت أشعر أن الصمت هو أكثر الأماكن صدقاً
هو مرآتي الأولى
وصوتي الحقيقي
والباب الذي لا يفتحه أحد غيري
وفي تلك اللحظات
حين يختفي العالم
ويبقى أنا فقط
وأنا الذي بداخلي
كنت أعرف أن الصمت
لم يكن صمتاً
بل كان اعترافاً
ورجاءً
وحنيناً
ووجعاً
وقوة لا تُقال
وعندما انتهت تلك اللحظة
لم أجد جملة ألجأ إليها
ولا كلمة تستطيع أن تُغطي ما حدث في داخلي
فقد قال الصمت كل شيء
وكتب
كما يكتب القدر
السطر الذي لا يُمحى
ولا يُعاد
ولا يُقال بصوت
سطرًا لا يولد إلا
عندما يتحدث الصمت…
