بقلم السيد عيد
حين يمرّ بائع الروبابيكيا، لا يمرّ وحده. يمرّ ومعه العمر كله، محمولًا على صوته المبحوح، كأن الشوارع تتذكّر فجأة أسماءها القديمة. ذلك النداء الطويل، المتكسّر، لا يطلب خردة، بل يستأذن الذاكرة.
الروبابيكيا ليست أشياء انتهت صلاحيتها، هي كائنات تعبت من الوقوف، فجلست في الظل. كرسيٌّ خشبيٌّ حفظ ارتعاشة الجد وهو يعدّ الأيام، وراديو عتيق علّق صوته في منتصف نشرة أخبار، كأنه رفض أن يكمل حكاية العالم.
في كل بيت ركن صامت، هناك تتراكم الحاجات القديمة كأسرار مؤجَّلة؛ ساعة حائط توقّفت عند لحظة فراق، مِكواة فحم اختنق صدرها من كثرة النفخ، وصندوق خشبي صغير خبّأ الرسائل التي لم تُقرأ مرة أخرى.
نحن لا نرمي الأشياء، نحن نؤجّل وداعها. نضعها بعيدًا لأن الاقتراب منها موجع، ولأن لمسها يفتح أبوابًا صدئة في القلب. كيف نبيع مرآة رأتنا صغارًا، وترابيزة أكل شهدت اكتمال العائلة قبل أن ينقص الكرسي واحدًا؟
الأشياء القديمة كانت تعرف الصبر. تشيخ ببطء، تتحمّل، وتظلّ تؤدي دورها حتى آخر مسمار فيها. لم تكن تُصنع لتُستبدل، بل لتبقى شاهدة.
أما اليوم، فكل شيء يلمع ليخدع، ويتهشّم من أول خيبة. نشتري كثيرًا، ونفقد أكثر.
بائع الروبابيكيا يعرف هذا السرّ. يمشي مثقلًا بما لا يُقاس بالكيلو، يحمل أحلامًا انطفأت، وأصواتًا خفتت، وأيامًا كانت كاملة. وحين يبتعد صوته في آخر الشارع، نشعر فجأة أن شيئًا منّا خرج معه… ولم يعد.
