د.نادي شلقامي
تظل حرب أكتوبر عام 1973—أو “حرب يوم الغفران”—نقطة تحول فاصلة في التاريخ العربي الحديث، فهي ليست مجرد انتصار عسكري على أرض المعركة، بل كانت انتصارًا حاسمًا للروح المعنوية، وبعثًا جديدًا لمفهوم الحلم العربي الذي كاد أن يموت تحت ركام هزيمة 1967. في ذلك اليوم، لم يعبر الجنود المصريون قناة السويس فحسب، بل عبروا معها حاجزًا من اليأس، وأعادوا تعريف معنى القوة والإرادة في المنطقة.
تحطيم أسطورة “الجيش الذي لا يُقهر”
كانت أهم إنجازات حرب أكتوبر تتجاوز المكاسب الإقليمية المحدودة. لقد نجحت القوات المصرية والسورية، بتنسيق غير مسبوق، في تدمير نظرية الأمن الإسرائيلي التي اعتمدت لعقد من الزمان على مفهوم “الجيش الذي لا يُقهر”. العبور المظفر لقناة السويس، واجتياز خط بارليف المنيع في ست ساعات، لم يكن ليتم لولا تخطيط استراتيجي مُحكم، وإعداد نفسي ومعنوي هائل للجنود الذين كانوا يحملون على عاتقهم ثقل الهزيمة السابقة.
بالنسبة للعربي، لم يكن أكتوبر انتصارًا لمصر وسوريا فحسب، بل كان انتصارًا لكرامته المفقودة. لقد أثبت للعالم، ولنفسه أولاً، أن العرب قادرون على اتخاذ القرار وتحمل التضحية والقتال ببراعة وذكاء، متجاوزين الفجوة التكنولوجية الهائلة التي كانت تفصلهم عن خصمهم
النفط كسلاح والقوة العربية الموحدة
لم تقتصر قوة حرب أكتوبر على الجبهة العسكرية. لقد شهدت تلك الحرب أعظم مظهر من مظاهر الوحدة العربية منذ عقود. ففي لحظة حاسمة، تحولت الموارد الاقتصادية الهائلة للأمة إلى سلاح استراتيجي. قرار الدول العربية المنتجة للنفط بفرض حظر نفطي على الدول الداعمة لإسرائيل، كان بمثابة زلزال اقتصادي ضرب الغرب.
هذا القرار أثبت أن العمق الاستراتيجي العربي حقيقي وقادر على التأثير على مراكز القوى العالمية. هذا التنسيق بين القوة العسكرية (مصر وسوريا) والقوة الاقتصادية (دول الخليج)، هو ما شكل جوهر “الحلم العربي” في أبهى صوره: العمل المشترك والهدف الموحد.
من الحرب إلى السلام: تغيير قواعد اللعبة
رغم أن حرب أكتوبر لم تحقق النصر الكامل على الأرض، إلا أنها حققت النصر السياسي والاستراتيجي. أجبرت هذه الحرب إسرائيل وحلفاءها على إعادة تقييم الموقف، وأعادت العرب بقوة إلى طاولة المفاوضات كطرف فاعل وليس كطرف مهزوم.
لقد مهدت حرب أكتوبر الطريق لعملية السلام، وأدت إلى استعادة مصر لكامل سيناء. الأهم من ذلك، أزالت هذه الحرب “عقدة الخوف” التي كانت تخيم على المفاوضات الإقليمية، فبات الجميع يعلم أن الحل العسكري هو خيار موجود ومُكلِف للجميع.
إرث أكتوبر والحلم العربي اليوم
اليوم، ونحن نحتفل بذكرى أكتوبر، يظل السؤال قائمًا: ماذا تبقى من الحلم العربي؟
إن إرث أكتوبر ليس في استعراض القوة العسكرية، بل في روح الإرادة والتخطيط والصبر التي أدت إلى النصر. إنه يمثل تذكيراً بأن الوحدة الحقيقية تأتي من خلال الهدف المشترك وتضافر الجهود بين مكونات الأمة. أكتوبر يمثل درساً لجيل اليوم، مفاده أن تجاوز التحديات الكبرى—سواء كانت اقتصادية، أو أمنية، أو سياسية—يتطلب قراراً تاريخياً بالاعتماد على الذات، ورفضًا مطلقًا لحالة اليأس.
أكتوبر لم يكن نهاية للصراع، بل كان بداية لعهد جديد من الندية والاحترام. إنه الشعلة التي تُضيء الطريق للأجيال القادمة لتستمد منها العزيمة على بناء مستقبل عربي مزدهر، مستقبل يليق بتضحيات من عبروا القناة. فهل نستلهم من “العبور الكبير” قوة العبور نحو التنمية والوحدة التي طالما حلمنا بها؟
