بقلم: إيمان دويدار
قطار العمر لا يعلن مواعيده، ولا ينتظر المتأخرين. يمضي على قضبان الأيام بثبات غامض، نركبه فجأة دون تذكرة، ونظلّ طوال الرحلة نحاول فهم إلى أين نمضي، ومتى سنصل، وما الذي يستحق أن نحمله معنا.
في أول العربة نجلس أطفالًا، نضحك بلا سبب، نلوّح للنوافذ، ونظنّ أن الرحلة لا نهاية لها. كل محطة نمرّ بها تبدو لعبة، وكل توقف فرصة جديدة للدهشة. لا نخاف الفقد، لأننا لم نعرف بعد معنى أن يترجل أحد ولا يعود.
ثم ننتقل إلى عربات الشباب، حيث السرعة أعلى، والضجيج أشد، والأحلام أكبر من المقاعد. نتشاجر مع الوقت، نطالبه أن يتمهّل، أو أن يسرع، حسب رغباتنا. نعتقد أننا نتحكم في اتجاه القطار، وننسى أننا مجرد ركّاب نحسن الاختيار أو نسيء.
في منتصف الرحلة، تبدأ الوجوه في التبدّل. بعض من أحببناهم ينزلون في محطات مفاجئة، يلوّحون من بعيد، أو يختفون بلا وداع. نجرّ حقائب أثقل، مليئة بالذكريات، والندم، والمحاولات غير المكتملة. هنا نتعلم أن الخسارة ليست في النزول، بل في التعلّق بما مضى.
وحين نصل إلى عربات النضج، يصبح الصمت أوضح من الكلام. نُقلّل الأحمال، ونُعيد ترتيب ما تبقّى. نفهم أخيرًا أن الرحلة لم تكن عن الوصول، بل عن من شاركنا الجلوس، ومن نظر معنا من النافذة نفسها، ولو لبرهة.
قطار العمر لا يعود إلى الخلف، لكنه يترك لنا نافذة دائمة. من ينظر منها يرى الحقول، والأنفاق، والمدن التي عبرها دون أن يشعر. يرى نفسه في كل مرحلة، كما كان، لا كما تمنى.
وفي النهاية، لا أحد يعرف محطته الأخيرة. لذلك، أجمل ما يمكن أن نفعله ونحن على متن القطار، أن نكون لطفاء، أن نخفف عن بعضنا ضجيج الرحلة، وأن نترك مقعدنا نظيفًا، وذكرى طيبة… لمن سيكمل الطريق بعدنا.
