بقلم : أحمد رشدى
لم أكن أخاف الدمى يومًا…
كنت أراها مجرد أشياء صامتة،
بلا روح، بلا نية، بلا ذاكرة.
لكن هذا قبل أن أعمل في ذلك المخزن القديم التابع لدار الأيتام المهجورة،
وقبل أن أسمع البكاء القادم من صندوقٍ خشبي لم يُفتح منذ سنوات.
كان المكان معتمًا حتى في وضح النهار، والهواء فيه ثقيل كأنه يحتفظ بأنفاس من مرّوا به ثم نسِي كيف يطلقها.
رائحة قماش قديم، وغبار، وشيء آخر…
شيء يشبه الحزن والذكريات.
كنتُ مكلفاً بجرد الألعاب القديمة قبل نقلها إلى المخزن المركزي.
دمى قماشية، دمى بلاستيكية، عيون زجاجية فقدت لمعانها، وأطراف مكسورة لا أحد تذكر أصحابها.
لكن هناك صندوقًا واحدًا… لم يكن كغيره.
كان مغلقًا بإحكام، رغم أن المفاتيح المعلّقة عليه لم تكن ضرورية.
ومع ذلك، كنت أشعر أن فتحه خطأ…
خطأ كبير.
في الليلة الأولى، سمعت ذلك الصوت.
ليس صراخًا، بل نحيبًا خافتًا، كأن أحدهم يحاول البكاء بصوت خافت.
صدر الصوت من جهة الصندوق.
قلت لنفسي إن التعب يفعل ذلك، وإن العقول حين تُرهق تختلق أشباحًا لتسلّي وحدتها.
لكن في الليلة التالية…
سمعت اسمي.
لم يُنطق بصوت واضح، بل كهواء يمر عبر قماش قديم
“لا تتركني…”
تراجعت خطوة، وارتطمت بدمية كانت تجلس على رف قريب. سقطت، وانفصل رأسها عن جسدها، لكنه لم يتدحرج…
بل توقف مواجهًا لي، وعيناها الزجاجيتان مثبتتان عليّ.
لم أصرخ.
لم أستطع.
في الليلة الثالثة، فتحت الصندوق.
كانت بداخله دمى كثيرة… لكن واحدة فقط كانت تجلس مستقيمة، كأنها تنتظر شيئا.
دمية بوجه مشقق، وابتسامة نصف مكتملة، وعينين لا تعكسان الضوء بل تبتلعانه.
وحين لمستها… شعرت بشيء دافئ،
كأنها كانت حية قبل لحظات.
حينها سمعتها بوضوح.
“نحن لسنا أشرارًا… نحن فقط منسيون.”
تراجعت مذعورًا، لكن الأرض اهتزت بخفة، وسرت برودة غريبة في الغرفة.
ثم بدأ البكاء… عشرات الأصوات، ليست متطابقة، لكنها حزينة بالدرجة ذاتها.
رأيت الظلال تتحرك داخل الدمى،
كأن كل واحدة تحتوي شيئًا محبوسًا.
أطفال؟
أحلام؟
أم… جنٌّ حزين لا يجد جسدًا إلا هذه الألعاب؟
في تلك اللحظة فهمت.
لم تكن الدمى مسكونة… بل كانت مأوى.
مكانًا أخيرًا لمن طُردوا من عالم لا يراهم.
قال صوت هادئ من خلفي، لم ألتفت إليه:
“نحن لا نؤذي… نحن نُذكر بوجودنا.”
سألت بصوت مرتجف:
“بماذا؟”
فأجاب:
“بأن الوحدة يمكن أن تُحيي ما لا يجب أن يستيقظ وقد إخترناك صديقا لنا .”
في اليوم التالي، أُغلق المخزن نهائيًا.
قيل إن المكان غير آمن.
وقيل إن الدمى نُقلت إلى مستودع آخر.
لكن لا أحد يذكر أين.
أما أنا…
فمنذ تلك الليلة، كلما أغلقت عيني،
أسمع خشخشة قماش، وأنفاسًا صغيرة،
وصوتًا رقيقًا يهمس قرب أذني:
“لا تنسَ… نحن ما زلنا ننتظر من يلعب معنا.”
ومنذ ذلك اليوم…
لم أعد أشتري دمى لأطفالي.
ولا أترك واحدة في غرفة مظلمة.
لأن بعض الألعاب…
لا تحب أن تُنسى.
