م. جيهان بشير ابوكبدة
في ظل التحولات الجذرية التي تشهدها العمارة الحديثة، وانتقال المجتمعات نحو السكن في “البيوت المدمجة” نتيجة ارتفاع التكاليف واكتظاظ المدن، لم يعد الأثاث مجرد قطع جامدة لتأثيث الفراغ، بل تحول إلى استراتيجية هندسية متكاملة. إن استراتيجية “الأثاث متعدد الوظائف” تمثل اليوم الجسر الواصل بين ضيق المساحة واتساع الرؤية، حيث تدمج بين الابتكار التقني والحاجة الإنسانية للراحة والجمال.
مفهوم وفلسفة الاستحقاق المكاني
تستند هذه الاستراتيجية إلى مفهوم “المرونة المكانية”، أي أن الغرفة الواحدة لا يجب أن تُحبس في وظيفة واحدة طوال الأربع وعشرين ساعة. فغرفة النوم التي تُستخدم للنوم فقط ليلاً، تظل مساحة مهدرة طوال النهار. هنا يأتي دور الأثاث الذكي الذي يعيد تعريف “المتر المربع”، محولاً إياه من مساحة ثابتة إلى مساحة ديناميكية قادرة على التغير والتحول لتلبية احتياجات المستخدم المتغيرة بين العمل، الراحة، والترفيه.
الحلول الابتكارية لغرف النوم (استغلال المساحات الميتة)
تعتبر غرفة النوم من أكثر الغرف استهلاكاً للمساحة بسبب حجم السرير، ولذلك ركز المصممون على تحويل هذه القطعة الضخمة إلى وحدة تخزين أو قطعة قابلة للإخفاء:
الأسرة الهيدروليكية: هي حل عبقري يتيح رفع قاعدة السرير بالكامل بجهد بسيط، ليكشف عن مستودع كامل أسفله يتسع لقطع الأثاث الموسمية واللحف، مما يغنيك عن شراء خزانة ملابس ضخمة.
سرير ميرفي: هو الحل الجذري للمساحات الصغيرة جداً؛ حيث يختفي السرير داخل جدار ديكوري أنيق خلال النهار، موفراً مساحة أرضية كاملة يمكن استغلالها كمنطقة لعب للأطفال أو مرسم خاص.
رؤوس الأسرة الوظيفية: بدلاً من الظهر القماشي التقليدي للسرير، يتم تصميم رؤوس خشبية تحتوي على مكتبات مدمجة، إضاءة للقراءة، ومنافذ كهربائية، مما يلغي الحاجة تماماً للطاولات الجانبية.
تصميم المكاتب المنزلية (كفاءة العمل في قلب المنزل)
مع صعود ثقافة العمل عن بُعد، صار المكتب المنزلي ضرورة، لكن المساحة قد لا تسمح بغرفة مستقلة. هنا تبرز حلول الأثاث متعدد الوظائف:
المكاتب التحويلية: مكاتب تبدو كخزانات جدارية ضحلة أو مرايا، وبلمسة واحدة تنبثق منها أسطح عمل واسعة.
طاولات القهوة الذكية: في غرف المعيشة، تتوفر طاولات وسطية يرتفع سطحها هيدروليكياً ليصل إلى مستوى مريح للعمل على الحاسوب المحمول، بينما يتحول الجزء السفلي منها إلى وحدة تخزين للمستندات والأسلاك.
وحدات التخزين الرأسية المتنقلة: استخدام “التروللي” أو العربات ذات الأدراج التي يمكن سحبها بجانب المكتب أثناء العمل، ثم دفعها تحت أي طاولة أخرى عند الانتهاء، يحافظ على انسيابية الحركة داخل المنزل.
الفوائد الاقتصادية والنفسية للاستراتيجية
لا تقتصر فوائد هذا التوجه على استغلال المساحة فحسب، بل تمتد لتشمل:
الاستثمار طويل الأمد: على الرغم من أن تكلفة القطعة متعددة الوظائف قد تكون أعلى قليلاً، إلا أنها توفر قيمة قطعتين أو ثلاث قطع منفصلة.
الصحة النفسية: الفوضى المكانية تؤدي غالباً إلى تشتت ذهني. الأثاث الذي يتيح إخفاء الأغراض وتفريغ المساحة البصرية يمنح شعوراً بالهدوء والسكينة.
الاستدامة البيئية: باقتناء قطع أقل وأكثر جودة، نساهم في تقليل النفايات واستهلاك الخشب والموارد الطبيعية.
نصائح جوهرية قبل التأثيث
عند اعتماد هذه الاستراتيجية، يجب الانتباه لثلاث نقاط حاسمة:
جودة الميكانزمات: تأكد من جودة المفصلات والمحركات الهيدروليكية، فهي القلب النابض لهذه القطع.
سهولة التحول: القطعة التي تتطلب مجهوداً عضلياً كبيراً لتحويلها ستتحول مع الوقت إلى عبء ولن تُستخدم وظائفها الإضافية.
تعدد الاستخدام لا يعني التضحية بالراحة: لا تشترِ أريكة سرير تكون غير مريحة في الجلوس أو النوم؛ فالتعددية يجب ألا تأتي على حساب الغرض الأساسي.
