الأدب

ذلك الذي لم أكتبه

 بقلم/ سالي جابر

لا أفهم لماذا الآن! لكن الورقة هي من نظرت إليّ بعين صارمة، وأشارت إلى القلم، بل ودفعته لي. وأنا لا أبالي، كنت أجلس شاردة في اللاشيء، حتى إنني لم أنتبه إلى البنادول من حولي، إلا حينما وجدت القلم يمسك بيدي. ابتسمت له وشردت مرة أخرى.
فضربني على يدي وكأنه يوقظني:

ماذا بكِ؟ استيقظي.
لم أكن نائمة، لكنني شردت قليلًا.

بل كثيرًا يا عزيزتي، ألم تشعري بوحشة من دوني؟!

أنا بغمزة شفاه… لا.

كاذبة. فأنا والورقة متنفسك.

نظرتُ إليه باستنكار: أنت متنفسي؟ وما دور الأكسجين إذًا؟!

لا تكوني مملة هكذا. أنتِ تحبين وجودي…

وقبل أن أتحدث، قال لي: أصمتي، لا أريد أن أسمع أي هراء.

فرفعت الورقة البيضاء أمامه، فقال لي: إنها خالية، ألا تشتاقين لملئها؟

أغرب عن وجهي الآن، فأنا أبحث عن شيء ضائع ولا أدري ما هو.

اكتبي، سوف تجدينه بين السطور، حينما يغيب الكلام ويعم السكون. حينما تسمحين لي بالعنان ستجدين ضالتك.

وماذا بعد؟!

مملة أنتِ كطفلة صغيرة تريد بعض الحلوى في ساعة متأخرة من الليل.

ضحكتُ، ومسكته من تلابيبه، كاد أن يصرخ، ثم قال: “بسم الله! لقد حان لتلك المخبولة أن تستعين بي، فكم أحب جنانها!”

ضربته على رأسه، فقال: بالفعل، فهذا جنون. ما هو الشيء الضائع يا فاتنتي؟

قلت: لا أدري. لكنني أعلم أن شيئًا مفقودًا.

اكتبي، عزيزتي، كل ما تودين، أنا والورقة نساعدك في كل شيء تبحثين عنه.
وبغمزة بسيطة من عينيه البنيتين الجميلتين للورقة، فقالت وهي تنفض الغبار عنها: أنا هنا معكِ، فقط ابدئي.
ترددت، وبداخلي خوف من شيء لا أعلم ما هو.
ابتسمت، فأنا أبحث عن شيء لا أعلم ما هو، أخاف من شيء ولا أدري ما هو…

هيا، لقد سئمنا الانتظار.
حرّكت يدي، فوجدت إصبعي محاطًا بالقلم، والورقة البيضاء تنتظر، وأنا أنظر إليها وهي تستجديني: هيا، عزيزتي.
بدأت بالفعل، ثم وضعت القلم جانبًا، فوقف القلم، ووضع يداه في جانبيه، وفمه منعوج بزاوية حادة، ويقول:

أنتِ محاطة بالخوف. أراكِ تذوبين في كل شيء سوى نفسك، لا تريدين العراء الآن أمامنا…

أما الورقة فصرخت في وجهي:

لا أتحمل كل هذا الغبار فوقي. أعاني ولا أحد يشعر بي. لا أحتمل البياض. أرجوكِ، لا تتركيني معلقة بين الفراغ والمعنى.

بيد مرتعشة وأنفاس متقطعة، بدأت أكتب، وأنا أرى أمامي طفلة صغيرة تملي عليّ ما يمكنني كتابته، من أحداث مضت بما تحمله من ألم وخوف وضياع.
فتاة تبحث عن حلم تائه في غابة، بين الحيوانات الضالة، صرخة قابعة في ظلمات كظلمات يونس -عليه السلام- لم يُنجِها إلا التسبيح.

كتبت… لا أعلم كم من الوقت مضى، ولا كم سطرًا سقط من يدي. كل ما أعلمه أن الطفلة كانت تبتسم، ثم بدأت تتلاشى كالدخان، وكأنها اكتفت.

نظرت إلى الورقة، فلم أجد شيئًا مكتوبًا. أقسم أنني كنت أكتب، كنت أشعر بالحروف تخرج من صدري لا من يدي،
لكن الورقة… كانت بيضاء.

رفعت بصري إلى القلم، فوجدته مستندًا إلى الحائط، ينظر إليّ بارتياح. قال:

أحيانًا، لا تُكتب الأشياء بالحبر، بل تُكتب داخلك.
ثم أدار ظهره، ومشى نحو زاوية الغرفة، واختفى.

نظرت حولي، فالغبار قد زال، لكن الضياع ما زال هنا،
هادئًا، لا يصرخ، لا يرحل.

ابتسمت…
ورجعت أكتب من جديد، لا لأجد ما ضاع، بل لأتأكد أنه كان موجودًا يومًا.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى