رانيا ضيف تكتب”تباين الأزمان وتنوع القيم”

٩سبتمبر ٢٠٢٤
الفجوة الجيلية بين جيل الثمانينات والتسعينات وأبنائهم .. تباين الأزمان وتنوع القيم
شهدت الأجيال المتعاقبة تحولات هائلة في القيم، والثقافات، وأساليب الحياة. يعتبر جيل الثمانينات والتسعينات جيلًا فريدًا من نوعه، عالقًا بين عالمين مختلفين: عالم الأصالة والحداثة. هؤلاء الأفراد عاشوا تجارب متناقضة، بدءًا من التمسك بالقيم التقليدية والاعتماد على العلاقات الإنسانية البسيطة، وصولًا إلى التفاعل مع طوفان التكنولوجيا والانفتاح الثقافي السريع.
وما بين هذه التناقضات عاش جيلنا الأصالة والحداثة والصراع الأبدي،
كتب الفيلسوف الفرنسي بول فاليري: “التقدم ليس إلا وهمًا، ولكن الحنين إلى الماضي هو حقيقة واقعة” هذه العبارة تُجسد شعور جيل الثمانينات والتسعينات بالغربة بين القيم القديمة والجديدة. هذا الجيل عاش في زمن كانت فيه القيم التقليدية والعلاقات العائلية والتواصل الاجتماعي الواقعي تحتل مكانة مهمة. في المقابل، أصبح من الضروري التأقلم مع موجات التغيير السريعة التي جلبتها التكنولوجيا والحداثة.
كذلك الهدوء والصخب حيث عاش هذا الجيل تباين الإيقاعات الحياتية ما بين الهدوء والصخب
كان يعيش جيل الثمانينات والتسعينات في زمن أكثر هدوءًا وبساطة، حيث كانت الحياة تسير بإيقاع أبطأ وأقل ضغطًا. في المقابل، أبناؤهم ينشأون في عالم مليء بالصخب والسرعة والتشتت. نجد أن القيم الأصيلة والأوطان كانت محور حياتهم، بينما اليوم نجد الأبناء يتنقلون بين عوالم افتراضية مختلفة بسرعة البرق.
وما بين التمرد والانقياد والانزواء والانفتاح؛ ربما كان يتبع الجيل القديم القيم والأعراف الاجتماعية بشكل أعمى، ولكن الأجيال الجديدة تتحدى هذه القيم، وتسعى لفهم أعمق وتحليل أدق لكل ما يدور حولها. هذا التمرد على الأعراف الاجتماعية التقليدية يعكس وعيًا متزايدًا وإصرارًا على إيجاد مسارات جديدة تتناسب مع العصر الحديث وإن كنا ننفر من هذا السلوك تارة وننتقده أو نهابه تارة أخرى.
كذلك تغير مفهوم التواصل فكانت العلاقات الاجتماعية في الماضي تتميز بالدفء والتواصل الحقيقي. اليوم مع انتشار وسائل التواصل الاجتماعي تحولت العلاقات إلى تفاعلات افتراضية.. فالصداقات والمناسبات والواجبات الاجتماعية حتى الاجتماعات والصفقات تتم كلها خلف الشاشات!
وكأن الجيل الجديد يعيد تفسير مفهوم التواصل الاجتماعي بطرق جديدة تتناسب مع عصرهم الرقمي.
ومن منظور القيم والمادة والصراع الدائم، تجسد الكاتبة الأمريكية آين راند هذا الصراع بقولها: “المال هو أداة، وليس هدفًا”. بينما كان جيل الثمانينات والتسعينات يعمل بتلك المقولة ويؤمن بها ويهتم بالقيم والمبادئ بشكل أساسي، نجد أن الأجيال الحديثة تتعامل مع المادة كوسيلة وحيدة لتحقيق أهدافها الشخصية والمجتمعية. هذا التحول يعكس تغيرًا في الأولويات والقيم.
رغم الحنين إلى الماضي والشعور بالغربة بين الأجيال، يمكننا القول أن كل جيل يحمل معه طاقات وإمكانات فريدة. أبناء اليوم أكثر وعيًا، وأكثر انسجامًا مع الحياة الحديثة، وأكثر قدرة على التكيف مع التحديات الجديدة. وبما أن “التغيير هو الثابت الوحيد في الحياة” يجب علينا أن نتقبل هذا التغيير ونعمل على إيجاد نقاط التلاقي بين الأجيال لتحقيق تواصل أفضل وفهم أعمق بين الجميع.
ولا ننكر أنه في الوقت الذي يعيش فيه جيلنا بين موجات متنافرة ومتناقضة بين الأصالة والحداثة والهدوء والصخب والاتباع الأعمى والتمرد والانزواء والانفتاح، هذا الجيل الواقع بين صراع القيمة والمادة يشفق على أبنائه لأنهم لم ينعموا براحة البال وجمال العلاقات ودفء الأهل والتواصل الاجتماعي على أرض الواقع والاحتفالات الجماعية بأبسط المناسبات.. لكن الحقيقة أن أبناءنا أكثر وعيا منا بزمنهم وانسجاما مع الحياة التي تبدو في نظرنا قاسية وغير عادلة.
أبناؤنا لن يقبلوا فرض سياسات ولا إلزام عرفي ومجتمعي ولا علاقات سامة ولا مضيعة الوقت فيما لا يجدي، هم أكثر تحررا من بعض أعرافنا التي تسجننا في أطرها وأكثر مواكبة لمستحدثات عصرهم في الوقت الذي نرثي نحن حالهم!
فالفجوة الجيلية بين جيل الثمانينات والتسعينات وأبنائهم ليست سوى تعبير عن التغيرات الهائلة التي يشهدها العالم. ومن جهتنا، يجب أن نتعلم من هذه الاختلافات ونسعى إلى بناء جسور تواصل قوية بين الأجيال إن كنا نسعى لبناء مستقبل أفضل يتسع للجميع باختلافهم وتناقضهم .