كتبت: د. إيمان بشير ابوكبدة
يعد البحر الأبيض المتوسط، هذا المسطح المائي الهام الذي يربط ثلاث قارات، بؤرة للتنوع البيولوجي والثقافي والاقتصادي. ومع ذلك، فإنه يواجه تحديًا بيئيًا هائلاً يتمثل في التلوث، الذي يهدد استدامته ويؤثر سلبًا على صحة الإنسان والاقتصاد الساحلي. يسعى هذا التحقيق إلى تسليط الضوء على أبرز مصادر التلوث في البحر الأبيض المتوسط، والآثار المترتبة عليها، بالإضافة إلى استعراض الحلول المقترحة للقضاء على هذه الظاهرة أو التخفيف من حدتها.
أولاً: مصادر التلوث الرئيسية في البحر الأبيض المتوسط
تتعدد وتتنوع مصادر التلوث في البحر الأبيض المتوسط، ويمكن تصنيفها إلى الفئات التالية:
النفايات البلاستيكية: تُعتبر النفايات البلاستيكية من أخطر أشكال التلوث وأكثرها انتشارًا. تقدر كميات هائلة من البلاستيك التي تصل إلى البحر يوميًا من الأنشطة البرية والبحرية، بما في ذلك التعبئة والتغليف، والمعدات البحرية، ومخلفات الصيد. تتحلل هذه المواد البلاستيكية ببطء شديد وتتحول إلى جزيئات بلاستيكية دقيقة (ميكروبلاستيك) تدخل السلسلة الغذائية البحرية وتؤثر على الكائنات الحية.
مياه الصرف الصحي غير المعالجة: لا تزال العديد من المدن والمجتمعات الساحلية على طول البحر الأبيض المتوسط تلقي بمياه الصرف الصحي غير المعالجة أو المعالجة جزئيًا في البحر. تحتوي هذه المياه على ملوثات عضوية، ومغذيات (مثل النيتروجين والفوسفور)، وبكتيريا وفيروسات ضارة، مما يؤدي إلى تلوث الشواطئ، وانتشار الأمراض، وتغير في التوازن البيئي البحري (مثل ظاهرة الإثراء الغذائي التي تؤدي إلى تكاثر الطحالب الضارة).
التلوث النفطي: على الرغم من انخفاض حوادث التسرب النفطي الكبرى، إلا أن البحر الأبيض المتوسط لا يزال يعاني من التلوث النفطي الناتج عن الأنشطة البحرية الروتينية، مثل تفريغ مياه الصابورة من السفن، وتنظيف الخزانات، وحوادث صغيرة في منصات النفط والغاز. يؤثر النفط بشكل مباشر على الكائنات البحرية، ويعيق عمليات التمثيل الضوئي للطحالب، ويُلحق أضرارًا بالشواطئ.
المخلفات الصناعية والكيماوية: تُلقي العديد من المصانع القائمة على طول السواحل المتوسطية بمخلفاتها الصناعية في البحر، والتي قد تحتوى على معادن ثقيلة، ومواد كيميائية سامة، ومواد مشعة. تُعد هذه المواد شديدة الخطورة على الحياة البحرية وصحة الإنسان، حيث تتراكم في الأنسجة وتنتقل عبر السلسلة الغذائية.
التلوث الزراعي: تعد المبيدات الحشرية والأسمدة الكيماوية المستخدمة في الأراضي الزراعية القريبة من السواحل مصدرًا آخر للتلوث. تجرف هذه المواد بفعل مياه الأمطار إلى الأنهار ومنها إلى البحر، مما يؤدي إلى إثراء مياه البحر بالمغذيات وتكاثر الطحالب الضارة، بالإضافة إلى التأثير السام للمبيدات على الكائنات البحرية.
الصيد الجائر وممارسات الصيد غير المستدامة: على الرغم من أنه لا يُعد تلوثًا مباشرًا للمياه، إلا أن الصيد الجائر واستخدام شباك الصيد غير القانونية والمدمرة (مثل شباك الجر القاعية) يُلحق أضرارًا بالغة بالنظم البيئية البحرية، ويُغير من تركيبتها، ويُفقد التنوع البيولوجي، مما يجعل البحر أكثر عرضة لتأثيرات الملوثات الأخرى.
ثانياً: الآثار المترتبة على تلوث البحر الأبيض المتوسط
تترتب على تلوث البحر الأبيض المتوسط عواقب وخيمة على المستويات البيئية والاقتصادية والاجتماعية:
الأضرار البيئية
فقدان التنوع البيولوجي: يُهدد التلوث العديد من الأنواع البحرية بالانقراض، ويغير من توزيع الكائنات الحية في البحر.
تدمير الموائل البحرية: تُدمر الشعاب المرجانية، ومروج الأعشاب البحرية، والمناطق الساحلية الحساسة، التي تُعد حاضنات ومناطق تغذية للعديد من الأنواع.
الإثراء الغذائي وظاهرة المد الأحمر: يؤدي تزايد المغذيات إلى نمو مفرط للطحالب الضارة التي تستنفد الأكسجين في الماء، مما يؤدي إلى موت الأسماك والكائنات الأخرى، وظهور ظاهرة المد الأحمر.
تراكم الملوثات في السلسلة الغذائية: تنتقل المواد السامة والمعادن الثقيلة عبر السلسلة الغذائية، مما يؤثر على صحة الكائنات المفترسة العليا، بما في ذلك الإنسان.
الآثار الاقتصادية
تدهور قطاع السياحة: تتأثر الشواطئ الملوثة سلبًا بجذب السياح، مما يُفقد المنطقة عائدات اقتصادية كبيرة.
تراجع الثروة السمكية: يؤدي تلوث المياه وتدمير الموائل إلى انخفاض أعداد الأسماك، مما يُلحق الضرر بالصيادين والاقتصاد المحلي المعتمد على الصيد.
زيادة تكاليف معالجة المياه: تتطلب معالجة المياه الملوثة للشرب والاستخدامات الأخرى تكاليف باهظة.
تأثيرات على صحة الإنسان: تؤدي السباحة في المياه الملوثة إلى الإصابة بالأمراض الجلدية والمعوية، كما أن استهلاك المأكولات البحرية الملوثة يمكن أن يُسبب مشاكل صحية خطيرة.
ثالثاً: كيفية القضاء على تلوث البحر الأبيض المتوسط
يتطلب القضاء على تلوث البحر الأبيض المتوسط أو التخفيف من حدته جهودًا منسقة ومتكاملة على المستويات المحلية والإقليمية والدولية. فيما يلي أبرز الاستراتيجيات والحلول المقترحة:
تحسين إدارة النفايات الصلبة والبلاستيكية
تطبيق سياسات صارمة: حظر استخدام المنتجات البلاستيكية ذات الاستخدام الواحد.
تحسين البنية التحتية: إنشاء محطات حديثة لفرز وإعادة تدوير النفايات.
حملات توعية: تثقيف الجمهور حول مخاطر النفايات البلاستيكية وأهمية تقليل الاستهلاك وإعادة التدوير.
تنظيف الشواطئ وقاع البحر: تنظيم حملات تنظيف دورية لإزالة النفايات المتراكمة.
معالجة مياه الصرف الصحي
تطوير البنية التحتية: بناء وتحديث محطات معالجة مياه الصرف الصحي لضمان معالجة كاملة للمياه قبل تصريفها في البحر.
إعادة استخدام المياه المعالجة: توجيه المياه المعالجة لاستخدامات غير الشرب، مثل الري الزراعي أو الصناعي، لتقليل الضغط على الموارد المائية.
توفير الدعم المالي والتقني: مساعدة الدول النامية في المنطقة لتطوير قدراتها في معالجة مياه الصرف الصحي.
الحد من التلوث النفطي والصناعي
تطبيق اللوائح الدولية: الامتثال الصارم للاتفاقيات الدولية لمنع التلوث البحري من السفن (MARPOL).
تطوير تقنيات مراقبة وتتبع السفن: استخدام الأقمار الصناعية والطائرات بدون طيار لمراقبة الأنشطة غير القانونية.
تطوير الصناعات النظيفة: تشجيع التحول إلى عمليات إنتاج صديقة للبيئة وتقليل الانبعاثات الصناعية في البحر.
معالجة المخلفات الصناعية: فرض لوائح صارمة على معالجة المخلفات الصناعية قبل تصريفها.
إدارة الزراعة المستدامة
تشجيع الممارسات الزراعية الصديقة للبيئة: استخدام الأسمدة العضوية والمبيدات الحشرية الطبيعية.
تحسين أنظمة الري: تقليل جريان المياه المحملة بالملوثات إلى البحر.
توفير التدريب للمزارعين: تثقيف المزارعين حول أفضل الممارسات الزراعية.
مكافحة الصيد الجائر
تطبيق قوانين الصيد بصرامة: فرض الرقابة على أعداد المصيد، وأحجام الأسماك، ومواسم الصيد.
إنشاء مناطق حماية بحرية: تخصيص مناطق معينة كحدائق بحرية لحماية التنوع البيولوجي والسماح للأسماك بالتكاثر.
دعم سبل العيش المستدامة للصيادين: توفير بدائل اقتصادية للصيادين الذين يتأثرون بتطبيق قوانين الصيد.
التعاون الإقليمي والدولي
تفعيل الاتفاقيات الدولية والإقليمية: تعزيز دور الاتفاقيات مثل اتفاقية برشلونة وبروتوكولاتها المتعلقة بحماية البيئة البحرية.
تبادل الخبرات والتكنولوجيا: مساعدة الدول على تطوير قدراتها في مجال حماية البيئة البحرية.
تخصيص التمويل: توفير الدعم المالي للمشاريع البيئية في المنطقة.
البحث العلمي والمراقبة: إجراء دراسات مستمرة لتقييم حالة البحر وتحديد أولويات العمل.
