بقلم… أحمد رشدي
التجربة الرهيبة..
يقولون إن الأرواح لا تعود… لكن أحدًا لم يسأل ماذا يحدث إن لم تذهب أصلًا
لم يستفق تمامًا من الصدمة إلا حين أحسّ بالإبر تغوص في ذراعه
الضوء الأبيض يملأ الغرفة، وجهاز المراقبة
يرمق نبضه بصوتٍ منتظم
لكن شيئًا لم يكن طبيعيًا
الأنين الخافت يأتي من الغرف المجاورة
أصوات نحيبٍ مكتوم كأن المستشفى كلّه يتألم
حاول النهوض، لكن جسده كان مقيدًا إلى السرير بأشرطةٍ جلدية
أدار رأسه بصعوبة، فرأى من خلف الزجاج غرفة المراقبة
وفيها يقف الطبيب الذي كلّمه في الليلة الماضية
كان يكتب شيئًا في سجلٍّ ضخم
ثم التفت نحوه وقال بنبرةٍ مميتةوصوت بطئ،
ـ “الاختبار بدأ بالفعل، لا تتحرك… فالعقل لا يتحمل الفزع دفعةً واحدة”
ارتجف جسده كله
ـ “أي اختبار؟ من أنتم؟”
ابتسم الطبيب وقال بهدوءٍ كمن يفسر درسًا لتلميذٍ كسول
ـ “أنت لم تأتِ إلى هنا صدفة، دمك يحمل ما نبحث عنه، و… ما يسكنك أيضًا”
في تلك اللحظة انطفأت الإضاءة فجأة
الصفير المنتظم من الأجهزة تحوّل إلى ضجيجٍ غريب يشبه الصراخ
ومن سقف الغرفة بدأ يتساقط غبارٌ أسود، ورائحة حريقٍ تملأ المكان
سمع الباب يُفتح ببطء
ومن الظلام خرجت هيئة بشرية، مغطاة برداءٍ أبيض ممزق
كان وجهها شاحبًا كأن الموت لم يتركه منذ زمن
تقدمت نحوه، بينما القيود بدأت تنحلّ وحدها
قالت بصوتٍ خافتٍ كأنها تعرفه منذ زمن بعيد:
ـ “هربت من القبو؟ لم يهرب أحد قبلك… لماذا أنت؟”
تراجع وهو يلهث
ـ “من أنتِ؟!”
اقتربت أكثر حتى صار وجهها على بُعد أنفاسٍ منه
ـ “أنا التي فشلوا في علاجها… نجوتُ لأحكي ما لا يُروى”
انفجرت الإضاءة فجأة، لتظهر الغرفة في حالٍ مزرٍ
السرير صدئ، الجدران متشققة، الأرض مغطاة ببقايا أدواتٍ طبية تعود لعقود
لم يكن هناك طبيب، ولا أجهزة، ولا غرفة مراقبة
كل شيء كان مجرد وهمٍ يُزرع في العقل
نهض متعثرًا، والفتاة تشير له أن يتبعها
نزلا عبر ممرٍ ضيقٍ يقود إلى القبو السفلي
كل خطوة كانت تصدر صدى مكتومًا، وكلما تقدما أكثر زاد البرد في الهواء حتى كاد أن يخنقه
وعند الباب الحديدي الضخم وقف كلاهما
قالت وهي تنظر إليه بعينين تلمعان كوميضٍ في الظلام:
ـ “هنا بدأ كل شيء… وهنا ينتهي كل شيء”
فتح الباب بصعوبة، فإذا القاعة الواسعة مليئة بالأسرّة المعدنية
على كل سرير جثة مغطاة بملاءةٍ رمادية، وأجهزة تنبض بإشاراتٍ خافتة
كانت الوجوه شاحبة لكن العيون مفتوحة تنظر في فراغٍ صامت
وعلى الجدار لوحة مكتوب عليها:
“مشروع إعادة الوعي بعد الموت – المرحلة الخامسة”

inbound1270113317707309208
شعر بالقيء يصعد إلى حلقه
ـ “هل هذه تجارب؟!”
هزّت رأسها ببطء
ـ “بل ضحايا حاولوا أن يوقفوا الموت، فصاروا عالقين بين العالمين”
في الخلف، سمعوا صوت خطواتٍ تقترب
الطبيب ظهر من الظلام، وجهه هذه المرة كان مختلفًا
ملامحه ممزقة، وكأن شيئًا داخله يتحرك
قال بصوتٍ غليظٍ مزدوجٍ لا يشبه صوت البشر
ـ “من يدخل القبو… يصبح جزءًا من التجربة”
أمسك المقص الطبي بيده وتقدّم نحوهما
لكن الفتاة دفعت الطبيب بقوة، فسقط فوق إحدى الطاولات المعدنية، فاشتعلت الشرارات
ارتفع الدخان، وأصوات الصراخ ملأت المكان
أمسك بيدها وركضا نحو المخرج، بينما النار تلتهم كل شيء خلفهما
في طريق الهروب، بدأت الجدران تتهاوى
الأنوار تتفجر واحدةً تلو الأخرى، وصوت المولدات يصرخ كأن المستشفى يحتضر
وصلا إلى الممر الرئيسي، وهناك، على الباب الخارجي، كانت الريح تدور بعنفٍ غير طبيعي
قالت له وهي تلهث:
ـ “إن خرجنا الآن، لن نتذكر شيئًا… هذه هي لعنة التجربة”
ـ “أفضل النسيان على البقاء هنا!”
ركضا في الظلام حتى بلغا البوابة الحديدية
فتحها بقوة، وانطلقا في المطر، لا يلتفتان خلفهما
لكن قبل أن يبتعدا تمامًا، سمع صوت انفجارٍ هائل من داخل المستشفى
وانبعث ضوءٌ أبيض أعمى الأبصار، ثم خيّم السكون التام
استيقظ على رائحة مطرٍ ودوارٍ شديد
كان جالسًا على كرسي في غرفةٍ بيضاء ناصعة
إلى جواره ملفٌ يحمل اسمه، وصورة له بملابس الأطباء
دخل رجل ببدلةٍ رمادية وقال بهدوءٍ آليّ:
ـ “أهلاً دكتور، التجربة نجحت… هل تتذكر شيئًا من القسم السابق؟”
رفع رأسه ببطء وقال بصوتٍ مبحوحٍ:
ـ “القسم… السابق؟”
ابتسم الرجل ابتسامةً خالية من المشاعر
ـ “مرحبًا بك مجددًا في المرحلة السادسة”
…..
ظل المطر يهطل في الخارج، والمستشفى يبدو هادئًا كما لو لم يشتعل يومًا
لكن في الطابق السفلي،
كان باب القبو يُفتح ببطءٍ
من تلقاء نفسه…
