بقلم أحمد رشدي
حين نتأمل قصة إبليس في سجود الملائكة لآدم عليه السلام، نقف أمام مشهدٍ يفيض بالعِبر والدلالات، فإبليس لم يُغوَ من شيطانٍ آخر، ولم يُوسوَس له كما يوسوس هو للبشر، بل عصى ربّه بقرارٍ نابعٍ من ذاته، من نفسه التي امتلأت كبراً وغروراً، وقال متحدّياً: «أنا خيرٌ منه خلقتني من نارٍ وخلقته من طين»
(سورة الأعراف: 12).
تلك اللحظة التي رفض فيها إبليس السجود كانت إعلاناً عن أعظم معركة في الوجود: معركة الإنسان مع نفسه، فالنفس هي أصل الطغيان، وهي التي تزيّن للمرء طريق الباطل حتى يراه حقاً، وهي التي تستطيع أن تُغوي حتى دون وسوسةٍ من الشيطان. فالشيطان يفرّ عند ذكر الله، لكن النفس قد تبقى تقاوم التوبة وتنازع الندم حتى في لحظة السجود.
إن النفس، كما وصفها القرآن، ليست واحدة على حالٍ واحد، بل هي مراتب تتفاوت بين ظلمةٍ ونورٍ، وبين غوايةٍ وهدايةٍ.
فالنفس الأمّارة بالسوء هي أصل البلاء، هي التي تأمر صاحبها بالمعصية، وتجد لذنبه ألف عذر، قال تعالى:
«إن النفس لأمّارةٌ بالسوء إلا ما رحم ربي»
(سورة يوسف: 53).
تلك النفس التي كانت سبب عصيان إبليس، فقد رأى نفسه أعظم من أن يخضع لأمر الخالق، فاستكبر وكان من الكافرين.
ثم تأتي النفس اللوّامة، التي تخطئ ثم تندم، تزلّ ثم تعود، تُؤنّب صاحبها حين يجنح، وهي التي أقسم الله بها في قوله تعالى:
«ولا أُقسم بالنفس اللوّامة»
(سورة القيامة: 2).
إنها نفسٌ يقظة، لا ترضى بالخطيئة، ولا تسكن حتى تعود إلى خالقها، وبين الخطأ والتوبة تنضج وتتعلم.
أما النفس المطمئنة، فهي أسمى المراتب، النفس التي وصلت إلى السلام الداخلي، واطمأنت إلى ذكر الله، واستسلمت لأمره دون جدال ولا كبرياء، فناداها ربها نداء المحبّة في قوله تعالى:
«يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضيةً مرضية»
(سورة الفجر: 27-28).
إن إبليس سقط لأن نفسه غلبت عليه، لا لأن شيطاناً أغواه، بل لأنه لم يعرف أن أعظم عدوٍّ للإنسان هو نفسه، تلك التي تسكن بين ضلوعه، تتزيّن له أحياناً بالحجة والمنطق، وتدفعه نحو الغرور باسم الذكاء، أو إلى المعصية باسم الحرية، أو إلى التهاون باسم الرحمة.
قال رسول الله ﷺ:
«أعدى عدوّك نفسك التي بين جنبيك»
(رواه البيهقي في الزهد الكبير).
وما أصدق ابن القيم حين قال في مدارج السالكين:
“جهاد النفس مقدّم على جهاد العدو، فمن عجز عن جهاد نفسه ليكون لها مطيعاً لله، فلن يفلح في جهاد عدوّه.”
فالنفس ليست شراً محضاً، لكنها ساحةُ صراعٍ بين الخير والشر، بين نور الإيمان وظلمة الهوى. والنجاة ليست في الهرب منها، بل في تزكيتها وتطهيرها كما أمر الله تعالى:
«قد أفلح من زكاها وقد خاب من دسّاها»
(سورة الشمس: 9-10).
وفي النهاية، لم يكن إبليس بحاجةٍ إلى شيطانٍ يُغويه، بل إلى نفسٍ تزكّى فتخشع لأمر ربّها. لكنه خسر تلك المعركة، فصار رمزاً لكل نفسٍ تتكبّر على الحق، وتستبدّ برأيها أمام الخالق.
فيا أيها الإنسان،
لا تخف من شيطانٍ يوسوس في أذنك، بل خف من نفسٍ تهمس في صدرك…
فربما تهزمك ،
دون أن تتكلم….
المصادر:
القرآن الكريم
صحيح الحديث: رواه البيهقي في الزهد الكبير
مدارج السالكين لابن القيم
إحياء علوم الدين للإمام الغزالي
