بقلم السيد عيد
ليست كل البدايات تُعلنها الشمس، أحيانًا يوقظك صوت الغلاية وهي تهمس للماء بأن يستعدّ لرحلة قصيرة، ينتهي بها في فنجان صغير… هناك، حيث يذوب النسكافيه في دوّامةٍ من البخار، تبدأ الحكاية.
رائحة النسكافيه تشبه وعدًا قديمًا بالطمأنينة، تسبقها الذكريات إلى أنفك، فتستيقظ الحواس قبل أن يفتح الجفن بابه على اليوم الجديد. هو ليس مجرد مشروب، بل طقس مقدّس يعقد الصلح بين الإنسان وزحام الحياة.
كم من فكرة وُلدت في فنجان نسكافيه، وكم من حوار صادق بدأ برشفة، وكم من صمتٍ طويل انكسر حين وضع أحدهم كوبه على الطاولة وقال: “تحب نسكافيه؟”
هو الشرارة التي تشعل الحديث، والجسر الذي يعبر به الغريب نحو الألفة.
النسكافيه ليس قهوةً كاملة، لكنه أيضًا ليس مجرد بديل. هو منطقة رمادية، يسكنها أولئك الذين لا يريدون مرارة البن الصافي ولا خفة الحليب وحده. هو توازن بين نكهتين، يشبه الإنسان حين يتأرجح بين الواقع والحلم.
وفي المساء، حين يهدأ الضجيج، يصبح النسكافيه صديقًا آخر — يُنصت بصبرٍ، لا يقاطعك، ولا يسألك لماذا تبدو متعبًا. فقط يمنحك دفئه، ويتركك تحكي.
ربما لهذا نحبه: لأنه يشاركنا تفاصيلنا الصغيرة دون أن يطلب شيئًا في المقابل. هو فنجان بسيط، لكنه قادر على أن يرمّم مزاج يومٍ كامل.
ففي كل رشفة منه، شيء من الحنين، وشيء من الأمل، وشيء منّا نحن أولئك الذين لا يبدأ صباحهم إلا حين يذوب الحلم في الماء الساخن، ويصير اسمه… نسكافيه.
