بقلم السيد عيد
حين تهبط أولى قطرات المطر على وجه الأرض، كأن السماء تفتح قلبها وتبوح بما خبأته من مشاعر طوال العام. الشتاء ليس مجرد فصلٍ من فصول السنة، بل حالة وجدانية عميقة، تطرق أبواب الروح كما يطرق المطر زجاج النوافذ في ليالٍ طويلة ساكنة.
في الشتاء، يصمت كل شيء إلا الحنين. يعلو صوت الذكريات على هدير الريح، وتصبح رائحة المطر جسرًا سريًا بين الحاضر والماضي. تتسلل برودة الليل إلى القلب، فتجعلنا نبحث عن دفء لا تمنحه المدافئ، بل تمنحه العيون الصادقة، والأحاديث الدافئة، وفناجين القهوة التي تجمع بين رائحة البن ودفء الأيادي.
الشتاء يُعلّمنا التأمل، فكل مشهد فيه لوحة من السكون الجميل: شجرة عارية تتحدى الريح، قطرة ماء تتدحرج على زجاج نافذة كدمعة شفافة، طفل يركض خلف غيمة، وعجوز يجلس بجانب مدفأته يستعيد صورًا من زمن بعيد.
وربما لهذا نحب الشتاء رغم قسوته. نحب صوته وهو يغسل الأرصفة من الغبار، ونحبه حين يجبرنا على البقاء قرب من نحب. في دفء البطانية، في ركن الغرفة الصغير، نكتشف كم نحن بشر… كم نحتاج إلى الدفء الإنساني أكثر من أي شيء آخر.
الشتاء، في حقيقته، ليس فصل البرد… بل فصل الصدق. فالوجوه تتعرى من زيف الصيف، وتظهر حقيقتها في العيون. والسماء تنزل دموعها دون خجل، ونحن أيضًا نفعل الشيء ذاته، لكن بصمتٍ لا يسمعه أحد.
فيا ليت العمر كله شتاء…
حتى نظل نبحث عن الدفء، ونكتشف في كل مرة أن أجمل ما في الحياة هو ما يُشعرنا بالبرد قليلًا، كي نعرف قيمة الدفء كثيرًا.
