بقلم د.نادي شلقامي
في قلب ريف مصر، حيث تتمدد الخضرة على مد البصر وتتراقص عيدان الذرة مع نسمات الصباح العليلة، وحيث الشمس ترسم لوحات ذهبية على صفحات النيل كل مغرب، كان هناك حكمة قديمة تتناقلها الأجيال. حكمة محفورة في كل حبة تراب، وفي كل قطرة ندى، وفي كل جهد يبذله الفلاح: “تجري يا ابن آدم جري الوحوش، غير رزقك لن تحوش”. هذه المقولة ليست مجرد كلمات، بل هي فلسفة حياة، دليل لمن يظن أن السعي وحده يكفي، دون إيمان بأن الأرزاق بيد مقسمها. وفي قريتنا “الروضة”، عاش “عم حسين” الذي أدرك بقلبه هذه الحقيقة، وعاش “صابر” الذي ظن أنه قادر على تغييرها.
في قرية الروضة الهادئة، حيث البيوت الطينية تتراص بجانب بعضها البعض كأنها تحتضن بعضها، وعيون الناس تحمل دفء الأرض التي يزرعونها، كان يعيش صابر. صابر شاب في مقتبل العمر، نشيط، طموح، ولكن طموحه كان يفوح منه رائحة القلق والخوف من الفقر. كان يرى في جاره عم حسين، الرجل المسن الهادئ، نموذجاً للرضا المبالغ فيه، بل والكسل أحياناً.
عم حسين، الذي كان يملك قطعة أرض صغيرة تكفيه بالكاد، كان يعمل بجد مع بزوغ الفجر، يروي زرعه ويهتم بحيواناته، لكنه كان دائماً يجد وقتاً ليجلس تحت شجر التوت يتأمل النيل، أو يتبادل الأحاديث الودية مع الجيران، أو يقرأ بعض آيات القرآن. كان يؤمن بقلبه أن الرزق مقسوم، وأن السعي واجب، لكن القلق والتوتر لا يغيران من الأمر شيئاً.
أما صابر، فكان ينام قليلاً ويعمل كثيراً. كان يملك فدانين من الأرض، ولكنه كان يستأجر فداناً ثالثاً ورابعاً، ويحاول زراعة كل شيء في أسرع وقت ممكن ليجني محصولين أو ثلاثة في العام الواحد. كان يسهر الليالي الطوال في الحقل، يراقب زرعه، يقلق من الآفات، يخشى الجفاف، ويحلم بالثراء السريع. كان يرى أن عم حسين “متخلف” في طريقة تفكيره، وأن الدنيا تحتاج إلى السعي الدؤوب بلا توقف.
في أحد الأعوام، كانت هناك أزمة مياه حادة. النيل انخفض منسوبه، والأرض بدأت تتشقق من العطش. الفلاحون في الروضة شعروا بالقلق، لكن عم حسين بقي هادئاً. كان يروي أرضه في الأوقات المسموح بها بحكمة، ويحافظ على كل قطرة ماء، ويردد: “الرزق على الله يا ولاد، وما لنا إلا السعي”.
صابر، على النقيض، أصابه الهلع. بدأ يحاول حفر آبار غير مرخصة، ويسحب المياه من القنوات بشكل جائر، متجاهلاً تحذيرات المسؤولين وشكاوى الجيران. كان يرى أن هذه فرصته لإنقاذ زرعه، بينما الآخرون سيخسرون. كان يظن أنه الأذكى والأكثر حيلة.
في البداية، بدا أن صابر سينجح. زرعه كان ينمو بسرعة أكبر من زرع الجيران، وكانت الابتسامة لا تفارق وجهه. كان يتباهى أمام عم حسين وغيره ويقول: “الرزق يحتاج لمن يركض خلفه بقوة، لا لمن يجلس ينتظره”. عم حسين كان يبتسم في هدوء ويقول: “ركض الوحوش لا يجلب إلا التعب، الرزق من عند الله”.
لكن، لم تدم فرحة صابر طويلاً. بسبب حفر الآبار العشوائية والسحب الجائر للمياه، تضررت التربة في أراضيه. ظهرت الملوحة في التربة، وبدأت المحاصيل تتلف شيئاً فشيئاً. ثم جاء قرار حكومي بفرض غرامات باهظة على من حفروا آباراً غير مرخصة، وتم سحب محركات الري الخاصة بصابر. وجد نفسه وقد خسر محصوله، وتراكمت عليه الديون، وأصبح في وضع أسوأ مما كان عليه.
في الوقت نفسه، وبعد مرور أشهر قليلة، هطلت أمطار غزيرة غير متوقعة في نهاية الموسم، أنعشت الأراضي وسقت الزرع الذي كان قد صمد في أراضي الفلاحين الملتزمين، ومنهم عم حسين. محصول عم حسين، الذي كان قد بدا ضعيفاً، انتعش وأعطى خيراً وفيراً بفضل العناية التي أولاها له في الأوقات الصعبة، وبفضل دعواته الصادقة.
شعر صابر بالندم الشديد، وجلس يوماً بجوار عم حسين تحت شجرة التوت. قال له بحسرة: “كنت أظن أن الرزق يأتي بالركض السريع والجهد المتواصل بلا تفكير. لقد جريت جري الوحوش، ولكنني لم أحصد سوى الخسارة”.
ابتسم عم حسين ابتسامته الهادئة وقال: “صدقت يا بني. “تجري يا ابن آدم جري الوحوش، غير رزقك لم تحوش”. الرزق مقسوم، والسعي مطلوب، لكن القناعة والتوكل على الله أهم من كل شيء. عندما نركض وراء الدنيا بلا وعي، ننسى البركة، وننسى أن الأرزاق بيد الخالق. كان يكفيك أن تعتني بأرضك بقدر، وتترك الباقي لرب العالمين”.
نهض صابر من مكانه، وقد أشرقت في قلبه حكمة جديدة. قرر أن يبيع بعض الأراضي المستأجرة، وأن يركز على أرضه التي يملكها، وأن يعمل بجد ولكن بحكمة وتوكل. وبدأ يزور عم حسين أكثر، يستمع إلى نصائحه، ويتعلم منه معنى الرضا والبركة.
وهكذا، علمت الأيام صابر درساً لن ينساه. أدرك أن السعي المتهور، القائم على القلق والجشع، لا يجلب إلا التعب والندم. وأن الرزق الحقيقي يكمن في البركة والقناعة، وفي الإيمان بأن لكل أجل كتاب، ولكل رزق موعداً. وفي كل صباح تشرق فيه الشمس على قرية الروضة، وكل مساء ينسدل فيه الستار على حكايات الفلاحين، تظل حكمة الأجداد تتردد في الأرجاء: “تجري يا ابن آدم جري الوحوش، غير رزقك لم تحوش”. وهي دعوة لكل إنسان أن يسعى بجد واجتهاد، لكن بقلب مطمئن، وعين ترى الحكمة في تدبير الله، وروح مؤمنة بأن الخير كله بيد من خلق ورزق.
