بقلم… أحمد رشدي
كان المساء ثقيلاً كدمعةٍ لم تجد طريقها إلى الخد، وكان الصمت يجلس على حافة الغرفة كغريبٍ لا يعرف أين يذهب، في زاويةٍ بعيدة جلس هو،
يحدّق في الفراغ كمن فقد ملامح العالم، أمامه صورة قديمة لها،
تبتسم فيها كما لو أنّها لم تكن تعرف أن الأيام ستمحو تلك الابتسامة يوماً
كانت تلك الصورة كل ما تبقى منها، رائحة عطرها ما زالت تلتصق بذاكرته، وصوتها يجيء إليه كل ليلة من مكانٍ لا يعرفه، كأنها ما زالت تتحدث من خلف الغياب، تسأله: أما زلت تذكرني؟ فيغلق عينيه ويهمس بصوتٍ مبحوح: وهل أنسى من كانت أنفاسي حين تضيق الحياة؟
لقد رحلت، لا موتاً، بل انسحاباً هادئاً من روحه، خرجت من حياته كما يخرج الضوء من آخر شمعة،
تاركةً وراءها ظلاً لا يزول،
ودمعةً لا تجف،
منذ أن رحلت تغيّر كل شيء،
حتى ملامح المدينة، حتى صوت المطر، حتى نفسه التي لم تعد تعرف كيف تبتسم
كان يمر في الشوارع التي مشيا فيها معاً، يلمح المقاعد التي احتضنت حديثهما، ويشعر أنّ المكان يسخر منه، كل زاوية تهمس باسمها، كل نسمة تحمل شيئاً من ماضيها، وكل وردةٍ يراها كأنها خرجت من أصابعها، كان يرى ملامحها في المارة، يسمع ضحكتها في صدى الآخرين، لكن لا أحد يشبهها
ذات ليلة جلس أمام البحر، كان الليل بارداً والموج يهمس بوحشةٍ غريبة، أخرج رسالتها القديمة من جيبه، كانت الورقة قديمة متكسرة كقلبه، قرأها مراراً، حتى حفظ كل حرفٍ فيها، كتبت له يوماً: “إن افترقنا يوماً فلا تكرهني، فقط تذكّر
أني أحببتك أكثر مما ينبغي”أن تعرف
فابتسم باكياً، وقال في نفسه: ما أقسى الذين يحبوننا ثم يرحلون وكأنهم لم يتركوا خلفهم رماد عمر،
ما أقسى أن تبقى أنت في مكانك تنتظر،
بينما من أحببت يسير في طريقٍ لا عودة منه
مرت أعوام، والوقت لم يشفع له، لم ينسها، بل تعلّم كيف يتألم بصمت، صار يضحك أمام الناس لكنه ينهار كلما سمع اسمها، صار الليل صديقه الوحيد، يحدّثه عن أوجاعه في صمتٍ طويل، ويغفو أحياناً على وسادةٍ مبللةٍ بدموعه
وحين سأله صديقه يوماً: لمَ لا تنساها؟ أجاب بنظرةٍ شاردة: لأنّ بعض الوجوه لا تُنسى، بل تتحوّل إلى وجعٍ يسكننا، لأنّ بعض الغياب لا يُمحى، بل يصبح وطناً نعيش فيه رغماً عنّا
وفي مساءٍ آخر،
وقف عند قبرها،
كانت قد رحلت أخيراً بعد صراعٍ مع المرض، وقف طويلاً،
كأنّ الأرض ابتلعت كل صوته، همس: ظننتكِ رحلتِ عنّي، ولم أعلم أنكِ كنتِ تتهيئين لرحيلٍ أكبر،
سامحيني،
لو علمت أنّ النهاية موت، لتمسّكت بكِ أكثر
ثم جلس قرب قبرها، ووضع الوردة التي احتفظ بها منذ عامها الأول معاً، وردةً جافة فقدت لونها، تماماً كما فقد هو بريق عينيه،
ثم أغمض عينيه وترك الدموع تنساب في هدوء، لا مقاومة، لا كبرياء، فقط انكسار رجلٍ عرف متأخراً أن بعض الفقد لا يُشفى،
وأنّ بعض الحبّ لا يموت،
بل يظلّ حياً ليعذّبنا حتى آخر الأنفاس
وفي تلك الليلة، بكى المساء معه، كأنّ الدنيا كلّها شاركته حزنه، وسكت البحر احتراماً لوجعه، وظلّ هو هناك، بين الذاكرة والتراب،
يحدّث الغياب كمن يخاطب حياةً لم تعد له
ثم أغلق عينيه للمرة الأخيرة…
….
