بقلم السيد عيد
في رحلةٍ لا تُقاس بالخطوات، بل تُوزن بالأنفاس، وجدتُني أعبر تخوم العادة إلى عالَمٍ لا يُرى بالعين، بل يُدرك بالقلب. هناك، حيث تسقط ضوضاء الظاهر، ويتعرّى الكون من صخبه، رأيت بديع صنع المحبوب. مخلوقاتٍ ثابتةً في مواضعها، تظنها من السكون صامتة، لكنها في حضرة الذكر خاشعة، وفي محراب الطاعة قائمة.
سألتها: من أنتم؟
قالت: نحن عالم الجماد.
تعجّبت؛ فالجماد في معجم الناس صامتٌ صمت أبديّ، وثقلٌ بلا روح. لكنهم بادروني بما يهدم الوهم: لسنا كما تظنون. لنا إرادة، ولنا حال، ولنا ذكر لا ينقطع. ألم تسمع قوله تعالى:
﴿فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ﴾
فأثبت الله للجدار إرادة، وللثبات ميلاً، وللسكون قصدًا.
إرادتنا قالوا أن نطيع الله وننفّذ أمره. كنا مأوى لفتية آمنوا بربهم، فآويناهم حين ضاقت الأرض بما رحبت، واحتضنّا غربتهم عن الأوثان.
﴿إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ﴾
ألسنا كهفًا من عالم الجماد؟ بلى، لكننا كنّا رحمةً ممتدّة، وزمنًا محفوظًا في حضن الغيب.
ثم سألتهم عن حالهم مع الحبيب الأعظم ﷺ، فتلألأ المعنى في أصواتهم: لنا معه أربعة أحوال محبة، وتسبيح، وأنين، وسلام.
أما المحبة، فانظر إلى جبل أُحد؛ جبلٌ يحبّ ونُحبّه. حين وطئت أقدام النبي ظهره اهتزّ فرحًا، وماد شوقًا، حتى قال له الحبيب: «اثبت أُحد»، فثبت. ليست الجبال صمّاء، بل القلوب وحدها قد تصمّ.
وأما التسبيح، فالحصى شهد؛ سبّح في كفّ النبي، وكأن الكون كلّه كان يردّد خلفه.
وأما الأنين، فالجذع بكى حين فارق حضن النبوّة، فضمّه النبي بيده الشريفة فسكن. كأن السكينة إذا لامست موضعًا استحال ألمًا إلى طمأنينة.
وأما السلام، فلك أن تسمع شهادة عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه: ما مررنا بشجرٍ ولا حجرٍ إلا قال: السلام عليك يا رسول الله.
ثم انتقلوا بي إلى أنبياء الله، فإذا للجماد مع موسى عليه السلام شأنٌ عجيب: حجرٌ ينفجر عيونًا، وعصا تصير آيةً بين الهشّ والإخراس، وتابوتٌ يحمل قدر نبيٍّ رضيع ليصير هلاكًا لفرعون وحزنًا عليه. جمادٌ، لكنه حامل أسرار.
ومع يوسف عليه السلام، دار السرّ على قميص. قميصٌ واحد بثلاثة أحوال: كذبٌ حين لوّثه الإخوة، وبراءةٌ حين شهد بالحق، وشفاءٌ حين عاد به البصر إلى يعقوب. كأن القماش صار لسان قدرٍ، ينطق بما تعجز عنه الأفواه.
ثم كان الصُّواع؛ حجابٌ ظاهره اتهام، وباطنه وصال. وكان الجبّ؛ حفرةٌ في الأرض، لكنها كانت سماءً في القلب. في غيابات الجبّ تذوّق يوسف أول خلوة، وتعلّم الأنس بالواحد القهّار دون اعتماد على الأغيار. لذلك، حين اشتدّ البلاء، قال: ﴿رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ﴾؛ لأنه عرف طعم الوحدة قبل الزحام، وسكن البحر قبل الموج.
هنا فهمت: الجماد لا يتحرّك بلا معنى، ولا يسكن بلا ذكر. كلّ شيء في الوجود واقفٌ على باب العبودية، لكننا نحن—أبناء الضجيج—نمرّ ولا نسمع.
وفي ختام المناجاة، سمعتُ تسبيحهم يملأ الأفق:
سبحان من أوجد كل متحرّك وساكن،
سبحان خالق الأزمنة والأمكنة،
سبحان الربّ المحبوب،
سبحان علّام الغيوب.
خرجتُ من رحلتي وأنا على يقينٍ واحد: ليس الجماد هو الصامت، بل القلب الذي لم يُصغِ بعد. وإذا تعلّم القلب الإصغاء، نطق له الكون كلّه.
