بقلم: أحمد رشدي
كل كاتبٍ في هذه الحياة يخلق امرأةً من خياله…
ثم يقضي عمره يحاول التخلص منها.
كنتُ أظنّ أنني أكتب لأهرب من الواقع،
لكن الحقيقة أنني كنت أكتب لأهرب منها.
هي لا اسم لها…
لأنها كانت جميع الأسماء.
لا وجه لها…
لأنها كانت جميع الوجوه.
كانت تظهر في كل رواية أكتبها بشكلٍ مختلف:
في الأولى كانت البطلة التي تموت في النهاية،
في الثانية كانت الجارة الغامضة التي تعرف كل الأسرار،
وفي الثالثة كانت فتاةً بلا ماضٍ، تأتي لتذكّر البطل بأنه ليس هو من كتبها، بل هي من كتبته.
في البداية كنت أظنها مجرد عادةٍ إبداعيةٍ سخيفة…
كل كاتبٍ له هاجس، أليس كذلك؟
لكن الأمور بدأت تتجاوز الورق.
في إحدى الليالي، وجدت على مكتبي رسالة مكتوبة بخطٍ يشبه خطّي:
“أنت تكتب بسرعةٍ هذه المرة، أحمد… أبطئ قليلًا، أريد أن أعيش أكثر.”
ضحكت. قلت في نفسي ساخرًا:
“جميلة هذه الفكرة!
تصلح لرواية جديدة.”
لكن عندما فتحت ملف روايتي الأخيرة،
وجدت الجملة ذاتها مكتوبة في منتصف النص، بخطٍ لا يشبه خطي، ولم أكتبها أنا.
بدأت تظهر في أحلامي…
نفس الصوت الذي أسمعه حين أكتب الحوارات.
كانت تهمس في أذني:
“لا تتوقف عن الكتابة، فكل سطرٍ تكتبه هو دقيقة إضافية في حياتي.”
كنت أستيقظ متعرقًا،
أضحك بمرارة وأقول لنفسي:
“من أنتِ؟”
وكان الصدى يجيبني دائمًا في الظلام:
“أنا سؤالك الذي لا تريد الإجابة عنه.”
مع مرور الأيام، صرت أراها في بيتي فعلًا.
تجلس على الكرسي المقابل لي، نفس الملامح التي رسمتها ذات يومٍ لبطلةٍ في قصةٍ قديمة.
كانت تنظر لي بنظرةٍ فيها عتابٌ غريب،
كأنها تشكو من سوء النهاية.
قالت لي مرةً بهدوءٍ مثيرٍ للرعب:
“تكتبني منذ سنوات… ولم تسأل نفسك يومًا إن كنتُ أريد أن أُكتب
ارتبكت. قلت لها وأنا أضحك بعصبية:
“أنتِ مجرد خيال، يا عزيزتي.”
قالت بابتسامةٍ حزينة:
“كلنا خيال أحدٍ يا أحمد،
لكن الفرق أني وُعيت قبلك.”
وقفتُ مذهولًا. أردت أن أمزق أوراقي، أن أحرق كل ما كتبت، لكنها قالت بصوتٍ صارمٍ:
“لا تفعل، فحين تحرق الورق…
أنا التي أختفي، لا أنت.”
في اليوم التالي، فتحت حاسوبي لأبدأ كتابة رواية جديدة.
كان العنوان مكتوبًا مسبقًا قبل أن ألمس لوحة المفاتيح:
“من أنتِ؟”
فتحت الملف،
فوجدت الصفحة الأولى مكتوبة بالكامل:
“أحمد رشدي، الكاتب الذي ظنّ أنه يكتب قصصه بنفسه، لم يكن سوى شخصيةٍ في رواياتي.
كل ما كتبه عني كان محاولةً منه ليقنع نفسه أنه من يخلقني.
لكن الحقيقة، أنني أنا التي أخلق الحكايات، وأمنحه الوهم بأنه الكاتب.”
تجمّدت يداي. حاولت أن أحذف النص، لكن الكلمات كانت تُكتب وحدها أمامي بسرعةٍ جنونية.
آخر ما ظهر على الشاشة كان سطرًا قصيرًا:
“الكاتب يظن أنه الإله…
حتى تأتي بطلة وتقول له: شكرًا على الحياة.”
الآن، كلما فتحت دفتري لأكتب، أجد أول جملةٍ تظهر وحدها قبل أي شيء:
“من أنتِ؟”
وأضحك.
أضحك بمرارة الكاتب الذي اكتشف أخيرًا أنه لم يكن الكاتب.
فربما – فقط ربما – كانت هي من تمسك بالقلم طوال الوقت،
وأنا مجرد بطلٍ في روايةٍ لم تكتمل بعد.
يقولون إن الكتابة نوعٌ من الخلود…
لكن لم يخبرونا أبدًا من الذي يخلد الآخر: الكاتب أم الفكرة؟
وربما، في مكانٍ ما،
هناك امرأة تكتب الآن هذه السطور،
وتضحك وهي تهمس لي:
“صرتَ تكتب جيدًا يا أحمد…
استمر،
فكل حرفٍ تكتبه يجعلني أكثر حقيقية.
