بقلم … أحمد رشدي
في ليلة حالكة السواد، خيم ظلام دامس على القرية وأحاط الصمت العميق بالمقبرة القديمة الواقعة على أطرافها، حيث تتكسّف الأسوار الحجرية المهترئة بالطحالب وتختبئ القبور بين أعشاب برية نابتة في كل مكان.
انعكس ضوء القمر الخافت على سطح بركة مياه راكدة خلف المقبرة، محدثًا وهجًا فضيًا يخلط بين السكون والغموض، وينسج هالة من الرهبة وسط برودة تفوح من تحت أقدام الزائرين.
سعيد، رجل في أواخر الثلاثينيات من عمره، متمسك بفكره الديني الرافض للخرافات والأساطير، نشأ في بيئة تعتز بالعلم والمنطق، وكانت تحيط به أصداء قصص الأشباح والخرافات التي لطالما رفضها بشدة. لكنه جاء إلى هذا المكان محملاً بحزن عميق لا يمكن تفسيره، فقد اختفى والده وإخوته قبل سنوات في ظروف عجزت كل الروايات عن تفسيرها. رافضًا قبول الخوف المُفترض والقصص المطاطة، قرر أن يواجه الحقيقة بنفسه دون التراجع، باحثًا عن بصيص من نور يقوده إلى حيث تختبئ أسرار ماضي عائلته بين ظلال المقبرة.دخل الممرات الحجرية الباردة التي تفوح منها رائحة التراب والرطوبة؛ خياله يرفض التشكيك، لكن جسده يتوتر مع كل همسة للعاصفة التي تعصف بين القبور المتداعية.
شعر بخطوات خفيفة تلاحقه، لم يرها لكنه أحس بوجودها، صوت أجنحة خافتة يصاحبها ظلال تتحرك بين القبور كأنها أرواح معذبة لا تجد لها مفرًا.ظهرت الجنية أمامه، ليست كما تتخيل الأساطير لكنها روح امرأة قديمة دفنتها ظلمات ظلم عميقة، عيونها تحمل سقم الحزن والغضب، وشعرها ينساب كخصل من ظلال الليل، لا دموع تبلل وجهها، بل نظرة متجمدة غارقة في جذور الألم الطويل، تلك الروح التي ظلت معطشة للانتقام وللعذاب منذ سقوطها في ظلال المقبرة، رافضة الرحيل أو التسامح.
سألها سعيد بثبات يعلوه الإصرار “لماذا تحملين هذا العذاب الطويل؟ ومع من خصومتك؟ ولماذا يتوجب على من يدخل هذا المكان دفع ثمن الفضول بمطاردة لا تنتهي؟”أجابته الجنية بصوت أعمق من الجمود الذي في عينيها “لقد حُكم عليّ بأن أكون هيكلًا عالقاً بين عالمين، لا أستطيع التحرر من ظلال الماضي، ولا أنطق إلا بالحسرة التي أكلت روحي عبر القرون، وأنت تحمل في دمك أوجاع من دفع ثمن محاولة كشف الأسرار التي أردت حمايتها.
“في تلك اللحظة انهالت الظلال كقطع من الليل تنطلق نحوه بسرعة مرعبة، مطاردة لا ترحم، يركض سعيد بين القبور والطرق المتلوية، يتنفس بصعوبة ويتحسس الأرض بخوف، لا يعتمد على أسلحة ولا طقوس، إنما على إيمانه العميق بالله وبقدرة الإنسان على مواجهة المجهول.كانت نبضات قلبه متسارعة وهو يترنح وسط أثر الانزلاق بين الحجارة، الظلال تتقافزه وتحاصره من كل جانب، لكنه يستمد قوته من ذاك الإيمان، يردد آيات من عقيدته، فتبدأ قوة غير مرئية تحيط به، وكأن النور الداخلي الذي يحمله يحول دون اكتمال مطاردة الظلام له، إلى أن وجد لنفسه مخرجًا بين جدارين من الحجارة، أصوات الظلال تتلاشى خلفه، ونسيم الصباح بدأ يغسل الهواء بسكينة تحمل الأمل.
بعدما وصل إلى خارج سور المقبرة ووقف مستنشقًا الهواء النقي، أدرك أنه ليس هناك أحد من أسرته ليعود إليه، فقد كانوا ضحايا ذلك الماضي المظلم، وأسرته الحقيقية الآن هي القرية التي لا تزال تحكمها قصص الخوف، لكن مهمته كانت أشبه بفجر جديد، حيث يحمل في قلبه قوة الإيمان التي لا تلين، وقناعة أن الحقيقة مهما كانت ظلمة مكانها يجب أن تروى وتُفهم، بدون أسباب زائفة ولا خيالات، وأن الإنسان قادر على الخروج من أعمق ظلمات الروح والعالم.
