بقلم- سالي جابر
استيقظتُ ذلك الصباح وأنا أحمل ثِقلًا غريبًا في صدري، كأن الحلم لم يُغادر، وكأن شيئًا من الليل التصق بي. رأيتُ نفسي في غرفة واسعة تمتد بلا نهاية، جدرانها كلها مرايا، لكن ولا مرآة منها أعادت إليّ وجهي. كنتُ أمشي بينها مأخوذة بدهشةٍ خائفة، أفتّش عن ملامح أعرفها، فلا أرى سوى فراغ بارد. وفِي أقصى الغرفة كانت هناك مرآة مغطاة بقماش رمادي. وما إن مدتُ يدي نحوها حتى سرى في جسدي كهرباء حادة، جعلتني أرتجف وأبتعد كمن لمس نارًا.
ظننتُ أن الأمر مجرد كابوس. نهضت، مارست يومي بآلية تامة، وتجنّبت التفكير. لكن الليل لم ينسَني.
في الليلة التالية، عدتُ إلى نفس الغرفة. هذه المرة كانت المرايا أكثر عددًا، كأنها تتكاثر من تلقاء نفسها. لم تكن تعكسني، لكنها تعكس الغرفة فقط، كأنني لست جزءًا من المشهد. اقتربتُ من المرآة المغطاة، وما إن لامستُ طرف الغطاء حتى لفحني دوار مفاجئ ورنّ في رأسي صدى بعيد، فأفلتُّه وابتعدت. استيقظتُ وقلبي يدق كمن عاد من جري طويل.
تكرر الحلم في الليلة الثالثة، لكن شيئًا فيه تغيّر: إحدى المرايا كانت تعكس بابًا خلفيًّا غير موجود، وأخرى تُظهر ظلًّا يعبر المكان. شعرتُ وكأن المرايا تنطق بما لا أقوى على تذكّره. قضيتُ النهار مشوّشة، أبتسم لزميلاتي في العمل بينما روحي تتأرجح بين سؤال وآخر.
في الليلة الرابعة، بدأت المرايا تتحرك كأنها تراقبني. رأيتُ انعكاسًا يشبهني، لكنه أكبر سنًا وأتعَب. كلما حاولتُ الاقتراب منه يختفي. كانت المرآة المغطاة ترتجف، كأن ما تحتها يحاول الخروج. لم أجرؤ على لمسها.
قالت لي صديقة العمل بابتسامة ساخرة حين تأخرتُ سبع دقائق:
“إيه يا أستاذة؟ نمتِ زيادة عن اللزوم؟”
ضحكتُ بتوتر. كيف أشرح لها أن نومي صار معركة؟
في الليلة الخامسة، اختفت كل المرايا وبقيت مرآة واحدة… المغطاة. شعرتُ أن اللحظة التي ظللتُ أهرب منها قد وصلت. مددتُ يدي، ولم تكن الكهرباء هذه المرة ألمًا بقدر ما كانت دفعة تدفعني لفعل ما يجب. سحبتُ الغطاء دفعة واحدة.
لم أرَ وجهي.
رأيتُ طفلة صغيرة بشعرٍ منكوش وعيون واسعة. كانت تنظر إليّ كأنها تنتظرني منذ زمن. وعندما مددتُ يدي نحوها، وضعتْ كفّها الصغيرة على كفّي من داخل الزجاج، وشعرتُ بحرارةٍ غريبة كأنها تتسرب إليّ.
استيقظتُ وأنا أتنفّس بعمق لم أعرفه من سنوات. وقفتُ أمام مرآة غرفتي الحقيقية. لوهلةٍ خفتُ ألّا أرى شيئًا. لكن… وجهي ظهر بوضوح، ملامحي التي فقدتها في الزحام، نظرتي التي نسيتها، وطفلتي الكامنة التي ظلت تُناديني في كل حلم.
ابتسمتُ…
لأني أخيرًا رأيتُ نفسي.
