د.نادي شلقامي
إن ظاهرة العين والحسد من الحقائق الثابتة في الشريعة الإسلامية، وهي ذات تأثير حقيقي ومادي على المعيون والمحسود، كما أخبر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم: “العين حق” (صحيح البخاري). والحسد في تعريفه الشرعي هو تمني زوال النعمة عن الغير، بينما العين هي نظر باستحسان ممزوج بخبث فيؤثر في الشيء المنظور إليه. وغالباً ما يُفهم الحسد والعين على أنهما يصدران من شخص تجاه آخر (الغير). ولكن، يطرح تساؤل مهم في هذا السياق: هل يملك الإنسان القدرة على إلحاق الضرر بنفسه من خلال إعجاب أو استحسان شديد غير مصحوب بذكر الله، ليصيب نفسه بالعين؟ يتناول هذا التقرير هذه المسألة مستدلاً بالأدلة الشرعية من القرآن الكريم والسنة النبوية وأقوال العلماء.
هل إمكانية إصابة الإنسان لنفسه بالعين والحسد؟؟
تنص الإجابة الشرعية المستندة إلى الأدلة على أن نعم، يمكن للإنسان أن يصيب نفسه بالعين (العين الذاتية). وعلى الرغم من أن الحسد بمعناه الضيق هو تمني زوال النعمة عن الغير، فإن العين (وهي ما يهمنا هنا) هي التي يمكن أن تصدر من الشخص على نفسه.
1. الدليل من القرآن الكريم (الاستدلال بالقياس)
أوضح دليل في هذا الباب هو قصة صاحب الجنتين المذكورة في سورة الكهف، حيث قال تعالى:
: ﴿وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالًا وَوَلَدًا﴾
(سورة الكهف، الآية 39)
— وجه الاستدلال:
في هذه الآية، نجد أن الناصح (صاحب النعمة الأقل) يوجه صاحبه المغرور (صاحب الجنتين) إلى ضرورة ذكر الله عند رؤية النعمة، وبخاصة نعمه الخاصة. فقول: “مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ” هو القول الذي يُحصّن النعم من الزوال.
— الربط بالحسد الذاتي:
يرى العلماء أن هذه الآية تُعد أصلاً في التحصين من العين بشكل عام، سواء كانت من الغير أو من نفس الشخص عندما يُعجب بشيء يملكه ويغفل عن أن مصدر هذه النعمة هو الله، فيعتد بها دون تحصين. فالإعجاب غير المحصّن بذكر الله هو أساس الإصابة بالعين.
2. الدليل من السنة النبوية وأقوال العلماء
على الرغم من عدم وجود نص مباشر وصريح يقول: “إن الإنسان يحسد نفسه”، إلا أن هناك أدلة قوية تُفهم منها هذه الإمكانية، وأقوال للعلماء تؤكدها:
2-1- الأمر بالبركة عند رؤية النعمة:
— أمر النبي صلى الله عليه وسلم مَن رأى شيئاً فأعجبه، أن يدعو بالبركة. قال صلى الله عليه وسلم: “إذا رأى أحدكم من أخيه، أو من نفسه، أو من ماله ما يعجبه، فليُبَرِّك، فإن العين حق” (أخرجه أحمد وغيره، وحسنه الألباني).
— وجه الاستدلال:
قوله: “أو من نفسه، أو من ماله” دليل صريح على أن العين لا تقتصر على الغير. فكما أن الإنسان مأمور بتحصين نِعَم الغير بالدعاء بالبركة، فهو مأمور بتحصين نفسه وماله عند الإعجاب بهما. هذه الإشارة النبوية تُثبت أن الإعجاب الذاتي غير المحصّن قد يكون سبباً في الإصابة بالعين.
2-2- تفسير العلماء:
— يذهب جمهور من العلماء إلى جواز أن يصيب الإنسان نفسه بالعين إذا لم يذكر الله. فالعين هي قوة تأثير تنطلق من النفس الخبيثة، وقد تكون هذه النفس هي نفس المعجَب الذي غفل عن التبريك وذكر مصدر النعمة.
— قال الإمام ابن القيم الجوزية رحمه الله في كتابه زاد المعاد: “وليس يمتنع أن يصيب الإنسان نفسه… فكثير من الناس يصيب نفسه بالعين”.
3- آلية الإصابة الذاتية
تتم الإصابة الذاتية بالعين عندما:
3-1– يملك الإنسان نعمة (صحة، مال، جمال، توفيق…).
3-2- يَنظر إليها نظرة إعجاب شديدة أو استعظام للنفس (العجب/الغرور).
3-3- يَنسى أو يغفل عن نسبة النعمة إلى الله وقول ما يحصّنها مثل: “ما شاء الله لا قوة إلا بالله” أو الدعاء بالبركة.
3-4- تتحرك قوة العين وتأثيرها من النفس الخبيثة المعجَبة فتصيب النعمة فتزيلها أو تنقصها.
بناءً على الأدلة المستخلصة من القرآن الكريم في قصة صاحب الجنتين (بضرورة التبريك عند رؤية النعمة)، والسنة النبوية التي أمرت بالتبريك عند رؤية ما يعجب من “نفسه أو ماله”، يؤكد العلماء أن الإنسان يمكن أن يصيب نفسه بالعين. إن هذه المسألة ليست مجرد خيال، بل هي تحذير شرعي من العُجب والغرور والغفلة عن شكر المنعم الحقيقي وهو الله سبحانه وتعالى.
– التحصين والعلاج:
هو ملازمة الذكر، وخاصة عند رؤية النعمة في النفس أو المال، بترديد “ما شاء الله لا قوة إلا بالله” أو الدعاء بالبركة، وذلك إقراراً بأن الفضل كله لله، وبهذا يسلم العبد من شر نفسه وشر غيره.
