د.نادي شلقامي
لا تلوموني إن اخترت الجلوس وحيدًا، ولا تعاتبوني إن آثرت الصمت على ضجيج المجالس، فالوحشة أحيانًا أرحم من ازدحام الوجوه، والعزلة قد تكون الملاذ الأخير لإنسان سئم النفاق وتعب من تكرار الأقنعة. لا تلوموني إن انسحبت بهدوء، دون ضجيج أو إعلان، فبعض الرحيل يكون حفاظًا على ما تبقى من الروح. وقد أعود يومًا، لكن حينها سأكون أكثر وعيًا، وأكثر اختصارًا في اختياراتي.
لم أعد أحتمل وجوهًا تبتسم في العلن وتطعن في الخفاء، ولا أحاديث تبدأ بالود وتنتهي بالمصلحة، ولا مجاملات زائفة تُقال على مضض ثم تُسحب عند أول اختبار. سئمت الكلمات المصقولة التي تخفي خلفها فراغًا هائلًا، وسئمت العلاقات التي تقوم على المنفعة لا على الصدق، وعلى الظهور لا على الجوهر.
جلست وحيدًا لأن الوحدة، رغم قسوتها، صادقة. لا تخدعك بابتسامة، ولا تخونك عند المنعطف الأول. الوحدة لا تطلب منك أن تكون شخصًا آخر، ولا تفرض عليك دورًا لا يشبهك. في وحدتي، أكون كما أنا، بضعفي وقوتي، بخوفي وجرأتي، بلا تزييف ولا تجميل.
لا تلوموني إن فضّلت حديث النفس على أحاديث المجالس، فهناك، في ذلك الصمت الطويل، أسمع صوتي بوضوح لأول مرة. أراجع ما كنت أهرب منه، وأواجه أسئلة كنت أؤجلها، وأفهم أخطاءً ارتكبتها حين وثقت أكثر مما ينبغي، وحين منحت قلبي لمن لا يعرف قيمته.
لم تكن العزلة يومًا كرهًا للناس، بل كانت حبًا للنفس. لم أبتعد لأنني أتعالى، بل لأنني تعبت. تعبت من تفسير موقفي، ومن الدفاع عن صدقي، ومن تبرير اختياراتي. تعبت من أن أكون حاضرًا بجسدي غائبًا بروحي، ومن أن أضحك فيما داخلي ينهار بصمت.
في وحدتي تعلّمت أن القلة الصادقة خير من الكثرة المزيفة، وأن الصديق الحقيقي لا يُقاس بعدد الضحكات المشتركة، بل بعدد المواقف التي لم يتخلَّ فيها عنك. تعلّمت أن بعض العلاقات عبء، وأن بعض الغياب نعمة متنكرة.
لا تلوموني إن لم أعد أطرق كل الأبواب، ولم أعد أبحث عن مكان في قلوب لا تتسع إلا لمصالحها. لقد أدركت متأخرًا أن الكرامة لا تُجزّأ، وأن السلام الداخلي أغلى من أي حضور اجتماعي زائف. أدركت أنني حين أختار نفسي، لا أخسر الآخرين، بل أستعيد ذاتي.
قد أعود يومًا، لكنني لن أعود كما كنت. سأعود أكثر وعيًا، أقل اندفاعًا، وأكثر انتقاءً. سأختار من أجلس معه، ومن أشاركه حديثي ووقتي، ومن أفتح له قلبي. وحتى ذلك الحين، لا تلوموني… فالوحدة، حين تكون اختيارًا، ليست ضعفًا، بل شجاعة.
