د.نادي شلقامي
في زمنٍ تآكلت فيه الخصوصية، وصار القرب الزائد بابًا للتدخل والوصاية، باتت العزلة اختيارًا واعيًا لا هروبًا جبانًا. أن تعيش وحيدًا لا يعني أنك مهزوم، بل أنك أدركت باكرًا أن السلام النفسي أثمن من ضجيج البشر.
الاختلاط غير المحسوب مع الأصدقاء كثيرًا ما يتحول إلى ساحة مفتوحة للمقارنات، والنميمة، وتصفية الحسابات الخفية. صديق اليوم قد يكون شاهدًا على سقطتك غدًا، أو ناقلًا لحكايتك من مجلسٍ إلى آخر، مزينًا إياها بما لم يحدث، حتى تفقد قصتك ملامحها، وتفقد أنت احترامك في عيون لم تكن يومًا لك.
أما الجيران، ففيهم الطيب الكريم، لكن كثرة الاحتكاك تصنع بابًا للقيل والقال؛ مراقبة الداخل والخارج، تفسير الصمت، وتأويل الابتسامة. بيتك الذي يفترض أن يكون حصنك الآمن، قد يتحول – إن لم تحسن وضع الحدود – إلى مادة جاهزة للحديث، ووقودًا لأحاديث المقاهي والأسطح.
وتأتي غيرة الزوجة – إن تُركت بلا احتواء ولا حكمة – لتزيد المشهد تعقيدًا؛ فالعين القلقة ترى الخطر في كل ظل، وتُحمّل العلاقات البريئة ما لا تحتمل. لا ذنب لها في الخوف، لكن الذنب كل الذنب حين يتحول الخوف إلى شكٍ دائم، ومراقبة خانقة، تُفسد الود، وتُنهك الروح.
ولا يمكن تجاهل تفاهة أهل الشارع؛ أولئك الذين يعيشون على أخبار غيرهم، ويصنعون قيمتهم من تتبع عثرات الآخرين. هم لا يضيفون لحياتك معنى، لكنهم قادرون – إن اقتربوا – على تلويث صفائك، وإهدار وقتك فيما لا طائل منه.
أما الأقارب، فرغم الدم والرحم، فإن الضوضاء التي يصنعها بعضهم تفوق احتمال القلب؛ تدخل في القرارات، محاكمات أخلاقية، ونصائح لم تُطلب، تُغلف أحيانًا بالحب، لكنها في جوهرها انتهاكٌ صريح لحقك في أن تعيش كما تريد.
لذلك، ليست العزلة قطيعة، وليست الوحدة جفاءً، بل هي فن اختيار المسافة الصحيحة؛ أن تقترب ممن يضيف، وتبتعد عمن يستنزف. أن تحيا بقلب مفتوح، لكن ببابٍ محكم.
عِش وحيدًا… تكن عزيزًا
ليس لأن الناس سيئون جميعًا، بل لأن القليل النقي خيرٌ من الكثير الملوّث، ولأن كرامتك لا تُقاس بعدد من حولك، بل بقدرتك على حماية نفسك من كل ما يُنقصك.
