د نادي شلقامي
في تقويم الذاكرة الوطنية المصرية، يقف يوم 25 ديسمبر كحلقة وصل قدرية نادرة؛ فبينما كان هذا اليوم عام 1918 هو فجر ميلاد الرئيس محمد أنور السادات، صاحب قرار العبور ومغير خريطة السياسة، شاء القدر أن يكون هو نفسه يوم رحيل رفيق دربه المشير أحمد إسماعيل عام 1974، بعد أن أتمّ رسالته العسكرية بعبور القناة وتحطيم الأساطير.
هذا التوافق الزمني ليس مجرد صدفة عابرة، بل هو تجسيد لرحلة بدأت بميلاد “الرؤية” وانتهت بوداع “الدرع”، وما بينهما صاغ هذا الثنائي ملحمة ‘خداع ودهاء’ أعادت لمصر كرامتها وللعسكرية العربية هيبتها. في هذا التقرير، نسلط الضوء على صقور النصر، وكيف تلاحمت عقلية السادات السياسية مع انضباط إسماعيل العسكري لتصنيع معجزة أكتوبر.
أولاً….محمد أنور السادات (بطل الحرب والسلام)
1. الميلاد والنشأة التعليمية:
— ولد في 25 ديسمبر 1918 بقرية ميت أبو الكوم بمحافظة المنوفية.
— تلقى تعليمه الأولي في كتاب القرية حيث حفظ أجزاء من القرآن الكريم.
— انتقل إلى القاهرة والتحق بمدرسة الجمعية الخيرية الإسلامية، ثم مدرسة السلطان حسين بمصر الجديدة.
2- الكلية العسكرية والتخرج:
— التحق بالكلية الحربية عام 1936 (دفعة التغيير التي سمحت بدخول أبناء الطبقة المتوسطة).
— تخرج عام 1938 برتبة ملازم ثانٍ، وتم توزيعه للخدمة في منقباد بصعيد مصر.
3- النضال ضد الاحتلال وثورة 23 يوليو:
— تزعم نشاطات سرية ضد الاحتلال البريطاني مما أدى لفصله من الجيش وسجنه عدة مرات (قضية أمين عثمان).
— انضم لتنظيم الضباط الأحرار وكان هو من ألقى بيان الثورة الأول في 23 يوليو 1952 بصوته عبر الإذاعة.
4- حرب الاستنزاف وخطة الخداع:
–تولى منصب نائب رئيس الجمهورية في عهد عبد الناصر، ثم تولى الرئاسة عام 1970 في ظروف قاسية.
— دعم استكمال بناء حائط الصواريخ خلال حرب الاستنزاف.
— قاد أضخم “خطة خداع استراتيجي” في التاريخ الحديث.
5- حرب أكتوبر والعبور:
— اتخذ القرار التاريخي المنفرد ببدء الحرب في 6 أكتوبر 1973.
— أدار غرفة عمليات الحرب بصفته القائد الأعلى للقوات المسلحة، متمسكاً بالهدف الاستراتيجي وهو كسر نظرية الأمن الإسرائيلي.
6- الوفاة:
–اغتيل في 6 أكتوبر 1981 أثناء الاحتفال بذكرى النصر في العرض العسكري (حادث المنصة)، ليرحل في يوم مجده.
ثانياً…المشير أحمد إسماعيل (المنسق العام للهجوم)
1- الميلاد والنشأة التعليمية:
— ولد في 14 أكتوبر 1917 في حي المنيرة بالقاهرة.
— تلقى تعليمه الابتدائي والثانوي في مدارس القاهرة، وتميز بالانضباط الشديد منذ صغره.
2- الكلية العسكرية والتخرج:
— التحق بالكلية الحربية وتخرج فيها عام 1938 (زميل دفعة السادات).
— سافر في بعثات تدريبية إلى بريطانيا والاتحاد السوفيتي، مما صقل خبرته العسكرية الدولية.
3- النضال ضد الاحتلال وثورة 23 يوليو:
— شارك في حرب فلسطين 1948 وكان قائدًا لسرية مشاة.
— كان من المؤيدين للتحرك العسكري للضباط الأحرار وتولى مهام تأمين حيوية عقب قيام الثورة.
4… حرب الاستنزاف وخطة الخداع:
— تولى رئاسة أركان حرب القوات المسلحة عام 1969، ثم رئيساً للمخابرات العامة.
— لعب دوراً محورياً في تنسيق المعلومات الاستخباراتية التي بنيت عليها “خطة الخداع”، وضمن السرية التامة لموعد الهجوم بالتنسيق مع الجبهة السورية.
5….حرب أكتوبر والعبور:
— عين وزيراً للحربية وقائداً عاماً للقوات المسلحة قبل الحرب بشهور قليلة.
— نجح في قيادة الجيش المصري ببراعة تحت مسمى “القائد العام للجبهتين” (المصرية والسورية).
— كان مهندس التنسيق بين الأسلحة المختلفة (مشاة، مدرعات، طيران) لضمان نجاح العبور وتحطيم خط بارليف.
6- الوفاة:
— توفي في 25 ديسمبر 1974 (في يوم ميلاد السادات نفسه) بعد صراع مع المرض، عن عمر يناهز 57 عاماً، وهو في قمة عطائه العسكري.
ثالثا…خطة الخداع الاستراتيجي في حرب أكتوبر..وكيف أدارها السادات وإسماعيل بتناغم مذهل:
— محاور الخداع بين “الدهاء السياسي” و”التنفيذ العسكري”
بينما كان الرئيس السادات يدير المشهد السياسي العالمي، كان المشير أحمد إسماعيل يشرف على التفاصيل الفنية للجبهة، وقد انقسمت خطتهما إلى:
1- الخداع الإعلامي: تم الإعلان عن تسريح آلاف الجنود والضباط (الرديف) قبل الحرب بأيام، كما نُشرت أخبار في الصحف عن فتح باب العمرة لضباط القوات المسلحة، مما أعطى انطباعاً بأن الجيش ليس في حالة استعداد.
2- الخداع الميداني: كان الجنود على الشاطئ الغربي للقناة يظهرون بملابس التدريب اليومية، بل وكان بعضهم يمارس “الصيد” أو “الاسترخاء” أمام أعين نقاط المراقبة الإسرائيلية لإخفاء نية الهجوم.
3- الخداع الهندسي: تم نقل معدات العبور (الكباري والقوارب) إلى القناة في ساعات الليل فقط وبمنتهى السرية، مع تحريك حشود عسكرية ضخمة ثم إعادتها لمواقعها ليلاً لإرباك أجهزة المخابرات.
4- عنصر المفاجأة (التوقيت): اختيار الساعة الثانية ظهراً كان قمة الخداع، حيث جرت العادة في الحروب أن تبدأ مع أول ضوء أو آخر ضوء، كما أن اختيار يوم “عيد الغفران” ضَمِن شلل الحركة في الجانب الآخر.
5- النتيجة:
نجح السادات وإسماعيل في جعل المخابرات الإسرائيلية (الموساد) تصدر تقريراً قبل الحرب بـ 6 ساعات فقط يقول: “احتمال الحرب ضعيف جداً”، وهو ما فتح الطريق للعبور العظيم.
وختاما…فإن القيمة الحقيقية في تاريخ السادات وأحمد إسماعيل لا تكمن فقط في انتصار عسكري، بل في “استعادة الإرادة”. لقد أثبت السادات بجرأته السياسية وإسماعيل بدقته العسكرية أن التخطيط العلمي الممزوج بالإيمان بالقضية يمكنه قهر المستحيل. رحلا جسداً، لكنهما تركا عقيدة عسكرية تدرس في أكبر الأكاديميات الدولية، مفادها أن النصر لا يصنعه السلاح فقط، بل تصنعه العقول التي تجيد استخدام هذا السلاح وتوقيت توجيهه.
وكأن القدر أراد أن يربط بينهما برباط أبدي؛ ففي اليوم الذي استقبلت فيه مصر صرخة ميلاد السادات عام 1918 ليقودها نحو التحرير، ودعت فيه المشير أحمد إسماعيل عام 1974 بعد أن أتم أمانة العبور، ليبقى يوم 25 ديسمبر شاهداً على ميلاد ‘الرؤية’ ورحيل ‘التنفيذ’ في ملحمة استعادة الكرامة.
