بقلم: د. نادي شلقامي
في عالمٍ باتت فيه “الشفافية المطلقة” و”المكاشفة الرقمية” عاصفةً تقتلع جذور الخصوصية، يبرز «الستر» ليس كخيارٍ أخلاقي فحسب، بل كضرورة وجودية وحصنٍ أخير لحماية التوازن النفسي والوئام المجتمعي. إن الستر في جوهره هو “فقه الصيانة” الذي لا يهدف إلى مواراة الخطأ بقدر ما يهدف إلى استبقاء فرص الإصلاح، ومنح الإنسان مساحة آمنة للتهذيب الذاتي بعيداً عن مقصلة التشهير. بين تجليات الاسم الإلهي “الستير” وحاجة النفس البشرية إلى السكينة، تتشكل ملامح هذه الفضيلة كدعامة استراتيجية في بناء الأمة، وفيما يلي تفصيل لأبعاد هذه المنظومة المتكاملة.
أولاً… المرتكزات العقائدية والشرعية (الستر كمنهج رباني)
يُعد الستر في المنظور الإسلامي صفة من صفات الذات الإلهية، فهو سبحانه “الستير” الذي يفيض بجميل ستره على عباده. وتتفرع هذه القيمة إلى ثلاثة محاور رئيسية:
1- الستر الإلهي: وهو أصل النعمة، حيث يسبل الله ستره على العبد في الدنيا، ويتمم هذا الفضل يوم القيامة كما ورد في الحديث القدسي: “قد سترتُها عليك في الدنيا، وأنا أغفرُها لك اليوم”.
2- حرمة المجاهرة: منع الإسلام “المجاهرة” بالمعصية، ليس دعوة للنفاق، بل صيانةً للحياء العام ومنعاً لكسر حاجز الهيبة من الخطأ.
3- المسؤولية الأخلاقية تجاه الآخر: جعل الإسلام ستر المسلم لأخيه من أعظم القربات التي توجب ستر الله للعبد في الدارين.
ثانياً… الأبعاد النفسية (الستر كملاذ للاتزان)
يمثل الستر حاجة نفسية فطرية للأمان، وتتجلى أهميته في:
1- تعزيز احترام الذات: يوفر الستر للفرد فرصة لمراجعة أخطائه وتصحيح مساره بعيداً عن “الوصمة الاجتماعية” التي قد تؤدي إلى اليأس أو الانحراف التام.
2- الوقاية من القلق الاجتماعي: إن كشف الخصوصيات يرفع مستويات التوتر، بينما يوفر الستر “مساحة آمنة” للنمو النفسي السليم.
3- تحفيز التوبة الصامتة: عندما يشعر الإنسان بأن عيبه مستور، يزداد إقباله على التغيير الإيجابي دون الشعور بالخجل القاتل الذي يعيق العودة للصواب.
ثالثاً…المسؤولية الاجتماعية في عصر الانكشاف الرقمي.
ثقافياً واجتماعياً، يعمل الستر كصمام أمان للمجتمع من خلال:
1- صون الحياء العام: الستر يقلل من اعتياد الناس على سماع المنكرات، مما يحافظ على نقاء الذوق الجمعي.
2- تحصين الروابط الأسرية: الستر بين الزوجين والأقارب يمنع تصدع البيوت ويحميها من الانهيار بسبب الهنات العابرة.
3- مواجهة التلصص الرقمي: في ظل طغيان وسائل التواصل، أصبح الستر ضرورة ثقافية لمواجهة انتهاك الخصوصيات الذي يهدد السلم الأهلي.
رابعاً…تجليات الستر (عشرة أبواب لصيانة الإنسان)
تتعدد أنواع الستر لتشمل كافة مناحي الحياة:
1- الستر العضوي: وهو ستر العورات الحسية بالثياب، وهو أول مراتب الحياء الإنساني.
2- الستر السلوكي: الكف عن تتبع زلات الناس وعوراتهم الأخلاقية.
3- الستر المادي: وهو “تعفف الفقر”، بأن يظهر الإنسان غنياً بكرامته رغم حاجته.
4- الستر الفكري: صون أسرار المجالس والخطط المستقبلية عن أعين الحاسدين.
5- الستر الروحاني (لباس التقوى): تنقية الباطن من قبائح القلوب كالحقد والحسد.
6- الستر الأسري: منحة الله للرجل والمرأة بستر عيوبهم أمام أبنائهم ومحيطهم.
7- ستر الصحبة: الرزق بصديق وفيّ يحفظ السر ويقيل العثرة.
8- ستر الصحة: المعافاة في البدن والقوة أمام متطلبات الحياة.
9- ستر العلم: نعمة المعرفة التي ترفع الإنسان وتصونه عن مهالك الجهل.
10- ستر الإخوة: وجود عصبة تستر الفرد وتكون صورة مشرفة له في المجتمع.
وختاماً، يتضح لنا أن الستر ليس مجرد سترة تواري العيوب، بل هو سياج حضاري ومنظومة قيمية متكاملة تضمن بقاء المجتمع على قيد الطهر والاستقرار. إن التمسك بفضيلة الستر في عصر الانكشاف المعلوماتي هو في حقيقته تمسكٌ بآدمية الإنسان وكرامته. إننا أمام ميثاق أخلاقي يوازن بين ستر الزلات وبين إقامة الحقوق؛ فالستر لا يعني التواطؤ، بل يعني صيانة القلوب من القسوة. وليظل الستر دوماً هو ذلك “الرداء الراقي” الذي نُجمل به عيوبنا ريثما نصلحها، ممتثلين لقول الحق سبحانه: {وَلِبَاسُ التَّقْوَىٰ ذَٰلِكَ خَيْرٌ}.
