بقلم: السيد عيد
ليس هذا مشهداً عابراً تلتقطه العين ثم تمضي، بل لحظة كونية قررت أن تتجسد في صورة. هنا، حيث يتوقف الزمن بين يبابٍ صامت وضوءٍ صاخب، تولد “الوحشة المضيئة” لا كتناقض لغوي، بل كحقيقة وجودية كاملة الدسم. فبعض الأشياء لا تُفهم إلا حين تفقد وظيفتها، ولا تلمع إلا حين تتخلى عن دورها الأول.
في هذا الفضاء المتجمد، لا نرى قارباً مهجوراً فحسب، بل نرى ذاكرة الماء وقد تحجّرت، وحكاية الرحيل وقد نسيت الطريق.
تحت القارب، تنفتح الأرض على أسرارها القديمة. شقوقها ليست كسوراً، بل سطورٌ كتبتها الشمس حين ضاقت بالماء. كل صدعٍ فيها يشبه تجعيدةً في جبين حكيمٍ عاش طويلاً ورأى أكثر مما ينبغي. كانت هذه الأرض يوماً حضناً رخواً، تحفظ أسرار الموج وتغفر لثقل الخشب، أما الآن فقد صارت صلبة كقرارٍ متأخر، قاسية كحقيقةٍ لا تحتمل التأجيل.
ومع ذلك، حين ينسكب ضوء القمر فوقها، تتحول تلك الشقوق إلى ممرات نور، كأن العطش نفسه قرر أن يتزين. هنا، تشرب الأرض الضوء لا لتعويض الماء، بل لتثبت أن الفقد لا يمنع التجلّي، وأن الجفاف قد يكون شكلاً آخر من أشكال الانتظار.
القارب لا يعوم، لكنه لا يسقط. مائلٌ قليلاً، متعبٌ كثيراً، لكنه ثابت كفكرةٍ عنيدة. لم يعد وسيلة عبور، بل صار شهادة. شهادة على أن الأشياء التي تنتهي مهمتها لا تنتهي قيمتها. هذا الخشب الذي شقّ المياه ذات يوم، يقف الآن شاهداً على زمنٍ كان، وعلى حلمٍ لم يكتمل لكنه لم يُهزم.
لون القمر ينسكب على جسده فيجعله يبدو كجمرةٍ باردة، تحترق بلا لهب. وكأن القارب يقول لنا:
“أنا لم أعد أذهب إلى أي مكان، لكنني صرت مكاناً بحد ذاته.”
إنه شموخ الانكسار، ذاك النوع النادر من الكبرياء الذي لا يحتاج إلى انتصار، بل يكتفي بالصمود.
في السماء، لا يؤدي القمر دور الكشاف فقط، بل دور الرفيق. لا يوبّخ الأرض على عطشها، ولا يسخر من القارب على عجزه، بل يمنحهما معاً فرصة الظهور الكريم. لونه الذهبي لا يفضح الخراب، بل يحنّنه، يلفّه بهالةٍ من السكينة، كأن المشهد صلاة صامتة لا تحتاج إلى كلمات.
هذا الضوء لا يعد بشيء، لكنه يطمئن. يثبت أن الجمال لا يسكن دائماً في الاكتمال، وأن الحزن حين يُضاء، يتحول إلى حكمة.
هذه الصورة ليست عن الجفاف، بل عن ما بعده. ليست عن القارب، بل عن الإنسان حين تتوقف مراكبه ولا تتوقف روحه. تعلمنا أن الأمل لا يأتي دائماً في صورة فيضان، بل أحياناً في هيئة انعكاس خافت، يكفي ليقول لنا إننا ما زلنا مرئيين.
فكما تحوّل الضوء شقوق الأرض إلى ذهب، يمكن للحظة صدق واحدة أن تحول كسورنا الداخلية إلى طرق. وكما صار القارب المهجور أسطورة صامتة، يمكن لكل روح متعبة أن تصبح معنى، حتى وهي خارج الماء.
إنها ترنيمة بلا موسيقى، ونشيد بلا صوت، لكن صداهما يبقى طويلاً في القلب…
لأن بعض الضوء لا يُرى بالعين، بل يُحسّ بالنجاة.
