مقال ( 2 )
كتب م / رمضان بهيج
كيف انتصرت غريزة الحياة على “حجر” الظروف والدمار
واقع صراع الحياة مع القسوة
لا يقف مفهوم “انتصار الحياة” عند حدود التأمل الفلسفي، بل يمتد ليشمل شواهد حية من التاريخ والواقع تبرهن على أن الإرادة الإنسانية هي القوة الأبقى:
1. الشعوب التي نهضت من الرماد (نموذج هيروشيما وناجازاكي)
ربما تكون القنبلة الذرية هي أقصى درجات “قسوة الحجر” والمادة التي عرفها البشر، حيث تحول كل شيء إلى تراب رمادي وموت صامت. لكن غريزة الحياة في الشعب الياباني لم تستسلم لهذا المشهد الجنائزي. في غضون عقود قليلة، تحولت المدن المحروقة إلى مراكز تكنولوجية عالمية. هذا الانبعاث هو الدليل الأكبر على أن الروح البشرية تملك قدرة على إعادة البناء تفوق قدرة السلاح على الهدم.
قوله تعالى في سورة الروم: “يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ .
2. ملحمة الصمود المصري (حرب أكتوبر والاستنزاف)
يمثل التاريخ المصري نموذجاً متكرراً لتلاحم الشعب والجيش في مواجهة “حجر” الاحتلال والعدوان وبقوة الايمان بالله. فبعد نكسة 1967، ظن الكثيرون أن جدار اليأس قد أطبق على الأنفاس، لكن غريزة البقاء والكرامة والايمان بالله كانت أقوى. تجلى ذلك في إعادة بناء القوات المسلحة من العدم، وفي صمود أهالي مدن القناة الذين لم تكسرهم القذائف، وصولاً إلى عبور خط بارليف الذي كان يوصف بأنه “سد من الحجر والتراب والصلب لا يقهر”. لقد كان العبور في جوهره انتصاراً للإرادة الحية على الحواجز المادية الصماء.
{إِن يَنصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِن يَخْذُلْكُمْ فَمَن ذَا الَّذِي يَنصُرُكُم مِّن بَعْدِهِ ۗ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ}، وهي الآية ١٦٠ من سورة آل عمران
3. المعجزات البيولوجية في “بيئات الموت”
في أعماق المحيطات، حيث الضغط الساحق والظلام الدامس والحرارة البركانية التي تذيب المعادن، اكتشف العلماء كائنات حية تزدهر وتتكاثر. وفي الصحاري القاحلة، تنتظر بذور النباتات عشرات السنين تحت رمال “قاسية كالحجر” لتستغل قطرة مطر واحدة وتعلن عن خضرتها. هذه الكائنات لا تقرأ الفلسفة، لكنها “تعيشها” بامتياز، مؤكدة أن الحياة تجد دائماً ثغرة لتنفذ منها.
4. صمود الثقافة والهوية (سور الصين العظيم والفن)
بنى الأباطرة الأسوار الحجرية العالية لحماية ممالكهم، لكن التاريخ يخبرنا أن الثقافات واللغات والآداب هي التي بقيت وتجاوزت تلك الأسوار. الحجر قد يسقط أو يتآكل، لكن الكلمة والفكرة والموسيقى—وهي تجليات لغريزة الحياة—تنتقل عبر الأجيال والحدود دون أن يوقفها جدار.
تُعلمنا هذه الأمثلة أن “الحجر” مهما كان شكله (سواء كان قنبلة، أو احتلالاً، أو ظروفاً اقتصادية طاحنة، أو حتى عجزاً جسدياً) هو في النهاية مادة ساكنة. أما غريزة الحياة فهي طاقة متجددة. السر ليس في “القوة العنيفة”، بل في “النفس الطويل” و”الإيمان بالنمو”. فالحجر قد يصمد طويلاً، لكن الحياة في النهاية هي التي تكتب الخاتمة
